اللهُ سُبْحَانَهُ

 

مسْأَلَةُ وُجُودِ اللهِ تَعَالَي هِيَ ضَرُورَةٌ قَلْبَيِّةٌ (عَقْلِيَّةٌ، وَفُؤَادِيَّةٌ)، تَسْتَمِدُّ قُوَّتَهَا مِن قُوَّةِ المُسَلَّمَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِيقَتِهَا عِلْمٌ اضْطِرَارِيٌ، مَبْنِيٌّ عَلَي طُفُولَةٍ مُطَوَّلَةٍ، تَعَلَّمَ الإنْسَانُ مِن خِلاَلِهَا، وَمِن خِلاَلِ نَفْخِ الرُوحِ فِيهِ، أنَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مُوجِدٌ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ خَالِقٌ، لاَ سِيَّمَا مَعَ عَظَمَةِ الصَنْعَةِ وَالخِلْقَةِ؛ بحَيْثُ لاَ يَجدُ الإنْسَانُ أيَّ صُعُوبَةٍ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ القَضِيَّةِ (1)، هَذَا إضَافَةً إلَي العِلْمِ النَظَرِيِّ الَّذِي تُسْتَكْمَلُ بهِ قَضَايَا التَعَمُّقِ، المَبْنِيَّةُ عَلَي إرْسَالِ الرُسُلِ، وَإنْزَالِ الكُتُبِ، وَدِرَاسَةِ الكَوْنِ بِمَا فِيهِ مِن مَخْلُوقَاتٍ، . . الخ.

وَحَيْثُمَا صَرَفْتُ بَصَرَكَ فِى هَذَا الكَوْنِ فَسَتَجِدُ مَخْلُوقَاتٍ مِثْلَكَ، لاَ تَسْتَقِلُّ بِوُجُودِهَا، وَإنَّمَا هِىَ عَلَى أحْسَنِ الأَحْوَالِ أقَلُّ شَأنًا مِن الإنْسَانِ تَكْوِينًا، مَا يَجْعَلُ الإنْسَانَ يَفْهَمُ دُونَ عَنَاءٍ أنَّهُ ـ إلَى أنْ يَجِدَّ جَدِيدٍ ـ مِحْوَرُ هَذَا الكَوْنِ، وَأنَّهُ عَلَى الرَغْمِ مِن كَوْنِهِ مِحْوَرِ هَذَا الكَوْنِ، إلاَّ أنَّهُ حَتْمًا لاَ بُدَّ بَيْنَ الفَيْنَةِ وَأُخْتِهَا؛ أنْ يَشْعُرَ بِضَعْفِهِ، وَفَقْرِهِ، وَاحتِيَاجِهِ لِلمُمْسِكِ بِزِمَامِ كُلِّ مَا حَوْلَهُ، سَوَاء كَانَ وَاحِدًا أوْ أكْثَر. وَمِنْ هُنَا تَبْدَأ رِحْلَةُ البَحْثِ، الَّتِى سَتُوصِلَهُ فِى النِهَايَةِ إلَى أنَّ المُوجِدَ، وَالمُمْسِكَ لِهَذَا الكَوْنِ لاَ بُدَّ وَأنْ يَكُونَ حَتْمًا؛ قَوِيًّا، وَقادِرًا، وَحَيًّا، وَسَمِيعًا، وَبَصِيرًا، وَعَلِيمًا، وَخَبِيرًا، وَلَطِيفًا، . . وَهَكَذَا؛ إذ كَيفَ سَيَسْتَطِيعُ خَلْقَ هَذَا الكَونَ المُتَرَامِى الأَطْرَافِ، بِمَا فِيهِ مِن مَوْجُودَاتٍ، وَكَيْفَ سَيَخْلُق تِلْكَ الكَائِنَاتِ الدَقِيقَةِ، وَمَا دَقَّ وَلَطُفَ فِى الضَخْمَةِ مِنْهَا، وَكَيْفَ سَيُتَابِعُ نَظَامَ سَيْرِ هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، إلاَّ أنْ يَكُونَ قَادِرًا، وَقَوِيًّا، وَعَلِيمًا، وَخَبِيرًا، وَلَطِيفًا، وَحَيًّا، وَسَمِيعًا، وَبَصِيرًا، . . الخ؟!

أيضًا لاَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخَالِقُ بِخِلاَفِ المُمْسِكِ، وَبِخِلاَفِ الرَزَّاقِ، وَبِخِلاَفِ مَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ . . الخ؛ إذْ إنَّ هَذَا التَعَدُّدِ لَيْسَ لَهُ عَقْلاً مَا يُؤَيِّدَهُ، وَيُسَانِدَهُ، بَل العَقْلُ عَلَى عَكْسِهِ، فَضْلاً عَنْ ظُهُورِ وِحْدَةِ الوُجُودِ فِى أنْحَاءِ الكَوْنِ:

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ” الأنبياء.

واعلم أنَّ كُلَّ الملاحِدَةِ المُنْكِرين للهِ لَمْ يَجْرُوؤا عَلَى إلْغَاءِ مَقَامَ الرُبُوبِيَّةِ، وَإنَّمَا اضْطرَوا إلي إيجَادِ بَدِيل لَهُ تَعَالَي؛ فَمِنْهُم مَنْ جَعَلَهُ “سُننًا طبيعيةً”، وَمِنْهُم مَن جَعَلَهُ “عُنْوَانًا لِلسُنَن الكَونِيَةِ”، وَكَثرَت الفَذلَكَاتُ، وَلَكِن كُلَّهُم أَنْكَرُوهُ اسْمًا، وَأَثبَتُوهُ أَثرًا . . فتأمل!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ ولأَنَّ العَقْلَ أَحْيَانًا مَا يَخُونُ صَاحِبَهُ إذَا مَا اسْتَطْرَدَ فِي اسْتِعْرَاضِ هَذِهِ القَضِيَّةِ، فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَي الخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَيَقُولُ: “إِذَا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ لَهُ وَاجِدٌ فَمَنْ أَوْجَدَ اللهَ؟”، يَقُولُ ذَلِكَ لأِنَّهُ مَحْكُومٌ بِقَوَانِينِ كَوْنِهِ، المَخْلُوقَةِ مِثْلُهُ. وَلأَنَّهُ فِي عَالَمٍ مِنَ النِسْبِيَةِ، فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ إِدْرَاكَ أَيَّ مُطْلَقٍ. وَلَكِن بِمُغَادَرَةِ هَذِهِ الدُنْيَا سَتَتَغَيَّرُ القَوَانِينُ، وَسَيُوجَدُ المَخْلُوق وُجُودًا بِلاَ مَوْتٍ، وَسَمَاءً غَيْرَ السَمَاءِ، وَأرْضًا غَيْرَ الأَرْضِ، . . وَهَكَذَا، وَسَاعَتُهَا سَتَتَغَيَّرُ كُلُّ مَوَازِيِنِ فَهْمِهِ، وَسَيَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ اللهَ تَعَالَي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَالحُكْمُ عَلَيْهِ مِنْ خِلاَلِ قَوَانِينِ الأَشْيَاءِ هُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ.