شَحْرُور/ الكِتَابُ والقُرآن/ أخْطَاءٌ فِى عِلْمِ اللهِ 10

8 ـ الشُبْهَةُ الثَالِثَةُ: عِلْمُ اللهِ إحْصَائِىٌّ:

.سَنُلاَحِظُ هُنَا (كَمَا لاَحَظْنَا فِى كَلاَمِ شَحْرُورِ عَنْ عِلْمِ اللهِ عُمُومًا) أَنَّ شَحْرُورَ ـ عَلَى أحْسَنِ الأَحْوَالِ، وَبِتَحْسِينِ الظَّنِ ـ يَقُولُ مَا لاَ يَفْهَمَهُ فِى هَذِهِ المَسْألَةِ الخَاصَّةِ بِعِلْمِ اللهِ، وَقَدْ كَانَ مِن ذَلِكَ وَصْفُهُ لِعْلْمِ اللهِ، وَعَلْمُ اللهِ لاَيُوصَفُ، وَإنَّمَا سُلُوكُ المُتَّقِينَ فِيهِ أنْ يَتَوَقَّفُوا عِنْدَ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَفَقَط. وَأيضًا فَقَدْ وَصَفَهُ مِن عِنْدِيَّاتِهِ. وَأخِيرًا فَقَدْ وَصَفَهُ خَطَأً.

.40/1/8 ـ فَسَادُ فَهْمِ شَحْرُورِ لِلعِلْمِ الإحْصَائِىّ:

.يَقُولُ شَحْرُورُ: “وعلم الله هو أعلى أنواع علوم التجريد، وأعلى أنواع علوم التجريد هو الرياضيات لذا قال (وأحصى كل شيء عدداً) (الجن 28) أي أن علم الله بالموجودات هو علم كمي بحت. فالإحصاء هو التعقل، والعدد هو حال الإحصاء“.

ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَهَا: “وإذا أردنا أن نعرف علم الله في الأشياء فهو علم رياضي بحت، أي في علم الله لا يوجد أصفر فاتح وأصفر غامق، وتفاحة كبيرة وتفاحة صغيرة، ولكنها في علمه كلها علاقات رياضية عددية بحتة“.

.فَأَوَّل شَيءٍ يُلْفتُ النَّظَرَ فِى كَلاَمِ شَحْرُورِ السَابِقِ هُوَ: مِن أينَ لَهُ بِهَذَا العِلْمِ، حَتَّى يَتَجَرَّأ وَيَصْدَعَ بِهِ؟ هَل يُنَبَّؤُاْ الرَجُلُ بِمَا لاَ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ يَنْطِقُ بِهِ، أم لَهُ كِتَابٌ مَنَزَّلٌ خَاصٌّ لَم يَصِلْنَا؟!!

هَل قَالَ اللهُ لَهُ (مَثَلاً): إنَّ عِلْمِى رِيَاضِىٌ عَدَدِىٌّ بَحْتٌ، وَفَقَط؟!

وَمِن أينَ لَهُ أنَّ عِلْمَ اللهِ لَيْسَ فِيهِ أَصْفَرٌ فَاتِحٌ، وَأَصْفَرٌ غَامِقٌ، وَتُفْاحَةٌ كَبيرَةٌ، وَتُفْاحَةٌ صَغِيرَةٌ؟! . . مَا هَذَا الكَلاَم الفَارغ؟!!

ءَآللهُ تَعَالَى يَقَفُ عِلْمَهُ عِنْدَ الكِمِّيَاتِ فَقَط، وَيَقْصُرُ عَن النَوعِيَاتِ، فَيَصِيرُ كَمًّا بِلاَ صِفَاتٍ، لَيْسَ فِيهِ كَبيرٌ، أوْ صَغِيرٌ، أوْ ألْوَانٌ، أوْ غَيْرُهُ؟!

سُبْحَانَك؛ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيم!

يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:

..لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)” الطلاق.

لِيُبَيِّنُ أنَّهُ يُحِيطُ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، ثُمَّ يَزيِدُ النَّاسَ بَيَانًا أنَّ عِلْمَهُ لَيسَ عِلْمًا بِالحَدَثِ فَقَطْ، وَإنَّمَا تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى العِلْمِ بِكُلِّ مَا يَخُصّ الأَحْدَاثِ مِن تَفَاصِيلٍ (بِكُلِّ شَيْءٍ) مَهْمَا بَلَغَت دِقَّتِهَا، عَلَى سَبِيِلِ الإِحْصَاءِ، وَالعَدِّ، فَلا تَغِيبُ عَنْهُ غَائِبَةٌ. فَاغْتَرّ البَعْضُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ دِرَاسَتِهِم لأيَاتِ الكِتَابِ المُحْتَشِدَةِ فِى بَيَانِ عِلْمِهِ، وَقَالُوا مَقُولَتِهِم الجَاهِلةِ بأَنَّ عِلمَ اللهِ إحْصَائِىٌّ، وَكَمِّىٌّ، وَلَيْسَ فِيِهِ ألْوَانٌ، وَلاَ أحْجَامٍ . . الخ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُبَرْهِنُ بِشَيْءٍ عَلَىَ مَا قَالَهُ.

.41/2/8 ـ الإحْصَاءُ فِى القُرْءَانِ يُحِيطُ بِالمُحْصَى:

.الإحْصَاءُ فِى القُرْءَانِ يَعْنِى أتَمُّ أشْكَالِ الحَصْرِ وَالوَصْفِ، وَبِالتَالِى فَإِذَا مَا قِيلَ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْنِى أنَّ مَا تَمَّ إحْصَاءُه لاَ يَخْفَى مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى الإِطْلاَقِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِى كِتَابِهِ الكَرِيم:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)” الكهف.

فَنَجِدُ أنَّ الإحْصَاءَ هُنَا مُسْتَوْدَعٌ فِى كِتَابٍ، وَالإحْصَاءُ حَصَرَ الأَحْدَاثُ كَمَا حَدَثَت بِالتَمَامِ وَالكَمَالِ، حَتَّى أنَّ مَا عَمَلُوهُ وَجَدُوهُ حَاضِرًا، وَمِنَ البَدِيهِى أنْ مَا هُوَ حَاضِرٌ حَاضِرٌ بِلَوْنِهِ وَحَجْمِهِ، وَجَمِيعُ تَفَاصِيلِهِ.

وَعِنْدَمَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: “وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا“، فَإنَّ اللونَ، وَالحَجْمَ، وَمَا شَابَهَ دَاخِلٌ فِى ” وَكُلَّ شَيْءٍ”، فَأن يَأتِى شَحْرُورٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقُولَ:

علم الله في الأشياء هو علم رياضي بحت، أي في علم الله لا يوجد أصفر فاتح وأصفر غامق، وتفاحة كبيرة وتفاحة صغيرة، ولكنها في علمه كلها علاقات رياضية عددية بحتة“.

هُوَ تَغَافُلٌ مِنْهُ، وَجَهْلٌ بِأَيَاتِ الكِتَابِ الكَرِيمِ.

وَعِنْدَمَا يَقُولُ العَلِىُّ: “إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)” مريم.

نَجِدُ أنَّ هُنَاكَ فِعْلُ إحْصَاءٍ، وَفِعْلُ عَدٍّ، وَبِالتَالِى فَلاَ يَصِحُّ هُنَا أيْضًا أنْ يُقَالَ بِأنَّ الإحْصَاءَ كَانَ عَدَدِيًّا، بَل إنَّ الإحْصَاءَ هُنَا يَعْنِى الحَصْرُ الشَامِلِ والكَامِلِ لِكُلِّ تَفَاصِيلِ الجَمِيعِ (1) بِكَامِلِ عَدَدِهِم. وَيُلاَحِظُ الذَكِىُّ هُنَا أنَّ الأَيَاتِ لاَ تَتَحَدَّثُ عَن الأعْمَالِ، وَإنَّمَا عَن الاسْتِيفَاءِ لِلجَمِيعِ، وَبِالتَالِى فَنَحْنُ نَأخُذُ مِنْهَا فَقَطْ مَعْنَى الإحْصَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ إحْصَاءٌ عَدَدِىٌّ كَمَا يَزْعُمُ الشَحْرُورُ.

وَعِنْدَمَا يَقُولُ تَعَالَىَ عَنْ رُسُلِهِ:

لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)” الجن.

فَإِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا“، هُوَ أحْدُ وُجُوهِ الإحْصَاءِ الَّذِى ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ كُلَّهُ، كَمَا تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ عَرْضُهُ أعْلاَهُ، فَهَل مِن المَسْلَكِ العِلْمِىِّ أنْ يأتِىَ شَحْرُور أو غَيْرُهُ عَلَى قَول اللهِ تَعَالَى: “..وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا“، لِيَقْتَطِعَ مِنهُ الإحْصَاءَ العَدَدِىَّ مِنْهُ، فَيَجْعَلُهُ هُوَ كُلِّ الإحْصَاءِ الرَبَّانِىّ، وَمُنْتَهَى عِلْمُ اللهِ، وَيُغْفِلُ لَفْظَ “الإحَاطَةِ” بِمَعْنَاه الشُمُولِىِّ، وَيُغْفِلُ التَركِيبَ الكَامِلَ لِلأَيَةِ، وُيَتَجَاهَل عَشَرَات الأَيَاتِ (الَّتِى سُقْنَا الكَثِيرَ مِنْهَا) النَّاصَّةِ عَلَى إحَاطَةِ وَشُمُول عِلْمِ اللهِ لِكُلِّ شَيءٍ، لِيَسْتَخْرجَ مِنْهُ هَذَا الهُرَاء الَّذِى قِيل؟ انظُرُوا لِقَوْلِهِ:

إننا نميز عدة أنواع من الإحصاء وهو أن نعقل الشيء ككل وذلك ما بأن نعرض صورة له ونرسمه وهذا ما نفعله الآن عندما نريد أن نعقل خلية فنضعها تحت المجهر ونرسمها “إحصاء كيفي” وإما أن نعقل الشيء عن طريق الوصف اللغوي كأن نصف شخصا وصفا عن طريق التعبيرات اللغوية بحيث أن المستمع يأخذ صورة كاملة عنا لشخص الموصوف “إحصاء لغوي” أما النوع الثالث من الإحصاء فهو الإحصاء العددي، أي الإحصاء عن طريق الكم أي أننا نأخذ صورة كاملة عن الكم المتصل “الإحصاء” بواسطة الكم المنفصل “العدد”. لذا قال عن إحصاء الله للأشياء بأنه إحصاء عددي لا إحصاء لغوي أي أن علم الله للأشياء كما قلت علم رياضي تجريدي بحت“.

.وَالخُلاَصَةُ أنَّ عِلْمَ اللهِ بِالأَشْيَاءِ لَيْسَ كَمَا قِيِلَ “عَدَدِىٌّ رِيَاضِىٌّ”، وَإنَّمَا هُوَ عِلْمٌ كَامِلٌ، شَامِلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، بِمَا فِى ذَلِكَ الألْوانَ وَالأحْجَامَ، والمُكَوِّنَاتُ الأَوَّلِيَّةُ، وَالأشْكَالُ، . . الخ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:

وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)” النبأ.

فَسُبْحَانَ مَن أحْصَى كُلَّ شَيْءٍ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهِ، وَاسْتَوْدَعَهُ كِتَابًا.

.9 ـ الشُبْهَةُ الرَابِعَةُ: كِتَابَةُ الأَعْمَالِ:

.لاَ يُفَرِّقُ شَحْرُورُ بَينَ العِلْمِ وَبَينَ تَسْجِيلِ الأعْمَالِ، وَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ العِلْمِ بِمَا سَيَحْدُث، وبَيْنَ العِلم بالوَاقِعِ؛ يَقُولُ شَحْرُورُ:

أن من يستقم فإنه لا يفاجئ الله باستقامته، ومن ينحرف لا يفاجئ الله بانحرافه. وفي هذا يصبح الخيار الإنساني الواعي خيارا حرا يستلزم الثواب والعقاب، وتصبح خيارات الإنسان غير مكتوبة عليه سلفا“.

.42/1/9 ـ كِتَابَةُ الأعْمَالِ بِمَنْأى عَنِ العِلْمِ:

.مِنَ البَدِيهِيّ أنَّ أعْمَالَ النَّاسِ غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ قَبْل وُقُوعِهَا، إذ كَيْفَ سَتُكْتَبُ عَلَى أنَّهَا حَدَثَت، وَهِىَ لَمْ تَحْدُثُ بَعْد؟! هَذَا أمْرٌ لاَ يَحْتَاجُ ذَكَاءً!

وَبَعْدَ اسْتِعْرَاضِ كُلِّ مَا سَبَقَ فِى الصَفَحَاتِ السَابِقَةِ فَقَدْ تَأكَّدْنَا: أنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى المُجَرَّدَ سَابِقٌ لِلخَلْقِ (أَزَلِيٌّ)، وَأنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ كُلِّ نَفْسٍ مِنْ قَبْلِ خَلْقِهَا، وَلَكِنَّهُ عِلْمٌ بِلاَ تَحَقُقٍ “كونيٍّ” بَعْدُ أَوْ أَحْدَاثٍ. كَمَا أنَّهُ يَعْلَمُ مَا سَتَكْسَبُهُ كُلُّ نَفْسٍ قَبْلَ تَحَقُّقِهِ، وَتَحْتَ أَيَّ ظُرُوفٍ، وَلَكِنَّهُ عِلْمٌ لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ تَعَالَى سَبِيلاً لِتَمْييزِ النَّاسِ وَحِسَابِهِم. وَعِنْدَمَا يَحْدُثُ هَذَا التَحَقُّق “الكَوْنِيّ” يَحْدُثُ العِلْمُ الوَاقِعِىُّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ التَسْجِيل وَالتَمْييز، فاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أفْعَالَ العِبَادِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَكْتُبْهَا عَلَيِّهِم بعِلْمِهِ، حَتَّى تَقَعُ مِنْهُم، وَبِالتَالِى فَإنَّ مَا سَمَّاهُ الشَحْرُورُ بِالخِيَارِ الإِنْسَانِيِ الْوَاعِي سَيَظَلُّ خِيَارًا حُرًّا، وَسَتَظَلُّ خِيَارَاتُ الإِنْسَانِ غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ عَلَيِّهِ سَلَفًا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلِ العَلِيّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)” ءال عمران.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِأَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)” مريم.

أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)” الزخرف .

وَهُنَا نَجِدُ العَدْلَ المُرْتَبِطَ بِالحُرِّيَةِ، فَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُؤَثِّرُ عِلْمهُ فِي شَيْءٍ مِن حُريِّةِ العَبْدِ، وَلَمْ يُسَجِّلُ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى قَامَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الاخْتِيَارِ وَالتَحَقُقِ، وَلَمْ يُطْلِعُ اللهُ تَعَالَى عَلَى غَيْبِهِ هَذَا أحَدًا.

.43/2/9 ـ جَحدُ الإنْسَان لأعْمَالِهِ:

.بِرَغْمِ أنَّ الإنْسَانَ قَدْ وُجِدَ فِى الدُنْيَا، واكْتَسَبَ مَا كَسَبَت يَدَاهُ، إلاَّ أنَّ مِنْهُ مَنْ يَجْحَدُ مَا عَمِلَهُ؛ يَقُولُ تَعَالَى:

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24)” الأنعام.

فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ حَالُ بَعْضِ الإنْسَانِ، وَهُوَ قَدْ خُلِقَ، وَتُرِكَ حُرًّا، وَاخْتَارَ أنْ يُشْرِكَ، ثُمَّ هَا هُوَ يُنْكِرُ، وَيَحْلِفُ أنَّهُ لَمْ يُشْرِكَ يَومًا، فَكَيْفَ كَانَ سَيَكُونُ الحَالُ لَوْ أنَّ اللهَ حَاكَمَ النَّاسَ بِعِلْمِهِ بِاخْتِيَارَاتِهِم فَقَطْ، بِدُونِ إيجَادِهِم فِى الواقِعِ؟

إذًا فَإيجَادُ النَّاسِ فِى هَذِهِ الدُنْيَا هُوَ ضَرُورَةٌ لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِم، وَكِتَابَةُ الأعْمَالِ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا هِىَ أيْضًا ضَرُورَةٌ لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى إِنَّ اللهَ يُوَاجِهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَفَائِحِهِم، وبِجَوَارِحِهِم:

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)” يس.

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23)” فصلت.

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)” النور.

إذًا فَالعِلْمُ المُجَرَّدُ لاَ يَنْفَعُ وَحْدَهُ مَعَ النَّاسِ، وَحَتَّى كِتَابَةُ الأعْمَالِ لاَ تَنْفَعُ أيْضًا مَعَ بَعْضِ النَّاسِ، وَمِن هُنَا نَفْهَمُ جَيْدًا أنَّ عِلْمَ اللهِ الأزَلِىّ لَمْ يَتَدَخَّلَ فِى خِيَارَاتِ النَّاسِ، وَأَنَّ النَّاسَ تَعْلَمُ يَقِينًا أنَّ أعْمَالَهُم وَقَعَت بِاخْتِيَارِهِم، وَقَرَارَاتِهِم، وَلِذَا قَالُوا لِجَوَارِحِهِم: لِمَ شَهِدتُم عَلَيْنَا؟ وَلَمْ يَقُل أحَدٌ مِنْهُم للهِ (مَثَلاً) أنْتَ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّنَا كُنَّا سَنَعْمَلُ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ فَلِمَ تَرَكْتَنَا نَعْمَلُهَا، أوْ أنَّهُ كَانَ لُزُومًا أنْ نَعْمَلَ مَا عَلِمْتَهُ، إذْ إنَّهُم يَعْلَمُونَ القِصَّةَ كَامِلَةً، وَيَعْلَمُونَ أنَّهُم اخْتَارُوا قَبْلاً أنْ يَحْمِلُوا الأمَانَةَ، وَيَعْلَمُونَ أنَ الاخْتِيَارَ فِى الدُنْيَا كَانَ لَهُم، وَأَنَّ اللهَ أشْهَدَهُم عَلَى أنْفُسِهِم، وَبِالتَالِى فَهُم يَعْلَمُونَ أنَّ العِلْمَ كَانَ لِلاخْتِيَارِ الوَاقِعِ مِنْهُم، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ شَهَادَةِ جَوَارِحِهِم، وَظُهُورِ حُرِّيَةِ اخْتِيَارِهِم: “..وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ“!

.44/3/9 ـ إحْبَاطُ الأعْمَالِ وَعَدَم النَظَرِ إلَيْهَا:

.طَنْطَنَ شَحْرُورُ بِأَنَّ تَحَقُّقِ العَدْلِ يَقْتَضِى جَهْلِ اللهِ بِمَا سَيَعْمَلُهُ العِبَادُ، وَبِالتَالِى يَبْدَأ تَسْجِيلِ الأعْمَالِ دُونَ سَبْقِ عِلْمٍ إلاَهِىٍّ، وَبِذَلِكَ فَقَدْ أعْطَى لِنَفْسِهِ مَرْتَبَةِ تَحْدِيدِ مَعَايِيرِ العَدْلِ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَدَلاً مِن أنْ يَتْرُكَ لِكِتَابِ اللهِ أنْ يُعَلِّمَهُ بِالمَعَايِيرِ الحَقِّ. حَسَنًا؛ فَمُنْتَهَى العَدْلِ عِنْدَهُ هُوَ أنْ تُسَجَّلُ الأعْمَالُ لِحِينَ الحِسَابِ. وَبِالتَالِى فَإنَّ التَسْجِيلَ الحُرَّ هُوَ سَبِيلُ تَحْقِيقِ العَدْلِ، وَلَكِن إذَا مَا رَجِعْنَا إلَى القُرْءَانِ فَسَنَجِدُ أنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ لَنْ يُؤبَهُ لِكُتُبِهِم، وَلَنْ تُنَاقَشُ أعْمَالهُم، وسَيُؤخَذُونَ فَوْرًا إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ المَصِيرِ، دُونَ مِيزَانٍ أوْ شَفَاعَةُ عَمَلٍ، فَأيْنَ مِعْيَارِ العَدْلِ الَّذِى بِسَبَبِهِ وَسَمَ شَحْرُورُ وَأشْبَاهِهِ اللهَ بِالجَهْلِ بِمَا سَيَعْمَلُهُ العِبَادُ مُسْتَقْبَلاً؟! . . يَقُولُ تَعَالَى:

..أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)” الأحزاب.

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)” يوسف.

أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)” الكهف.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)” النحل.

إذًا فَمِعْيَارُ العَدْلِ اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِى يُحَدِّدَهُ، وَطَالَمَا أعْلَمَنَا أنَّهُ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِن أعْمَالِ العِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَأنَّهُ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ، وَأَنَّ العِبَادَ أحْرَارٌ فِى أعْمَالِهِم، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أنْ نَفْهَمَ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ، وَعَن مَعَايِيرِ العَدْلِ فِى كِتَابِهِ.

لَقَدْ سَوَّدَ الأستاذ شَحْرور العَدِيدَ مِنَ الصَفْحَاتٍ الَّتِى تَعَدَّت الخَمْسَةَ ءَالاَفِ لَفظًا (5000)، حَاولَ فِيهِنَّ بِكُلِّ مَا يَملُكَ أنْ يُصَوِّرَ اللهَ تَعَالىَ بِأنَّهُ لاَ يَعْلَمُ أعْمَالَ العِبَادِ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، وَأَنَّ عِلْمَهُ ريَاضِىٌّ يَقَفُ عِنْدَ العِلم بِالاِحْتِمَالاَتِ كُلِّهَا فَقَط، دُونَ تَحْدِيدٍ لاحْتِمَالٍ مِنْهَا، وَأقْصَى مَا يُمْكِنُ أنْ يُقَالُ عِنْدَهُ هُوَ عِلْمُ اللهِ بِمَا يُضْمِرَهُ النَّاسُ فِى أنْفُسِهِم؛ وَكُلَّ هَذِهِ المُحَاوَلاَتِ الَّتِى تَمَّت كَانَ غَطَاؤهَا التَبْريِرِىُّ عِنْدَهُ هُوَ إثْبَاتُ العَدْلِ للهِ وَإنْ أثْبَتَ أيْضًا الجَهْلَ للهِ وَحَاشَاهُ. وَقَدْ رَأينَا هُنَا كَيْفَ أنَّ العَدْلَ مُثْبَتٌ للهِ مَعَ ثَبَاتِ العِلمِ لَهُ أيْضًا، فَسُبْحَانَ مَنْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَلاَ يَظْلِمُ أحَدًا.


والتَفَاصِيلُ هُنَا يَصْعُبُ حَصْرُهَا، وَلَكِن لِنَقُل إنَّ مِنْهَا أسْمَاءَهُم، وَأنْوَاعَهُم، وَألْوَانَهُم، وَأعْمَارَهُم، وَمَلاَمِحَهُم، وَأوْزَانَهُم، وَاَطْوَالَهُم، وَعَاهَاتِهِم، وَأمْرَاضَهُم، وَطُمُوحَاتِهِم، وَعَدَدَ خَلايَهُم، وَجِينَاتِهِم، وَفَصَائِلَ دِمَائِهِم، وَبَصَمَاتِ أصابِعَهُم، وَأصْوَاتِهِم، وَمَا هُوَ أدَقَّ مِن ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى.