وَلِعَلَّ أبْرَزُ مَا يُوَضِّحُ مَا نَقُولُهُ هُنَا؛ هُوَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ خَصَّصَ سُورَةً كَامِلَةً مِنْ كِتَابِهِ الكَرِيِم جَعَلَهَا لِلنِّسَآءِ، لاَ لِلإِنَاثِ.
وَافْتَتَحَهَا بِالأَيَةِ الأُولَى الَّتِى يَقُولُ فِيِهَا سُبْحَانَهُ؛ مُمَهِّدًا لِمَا سَيَأتِى بِهَا مِنْ أحْكَامٍ، وَأحْوَالٍ، تَخُصُّ كُلاًّ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَآءِ (بِصِفَتِهِم، وَبِجِنْسِهِم، بِغَيْرِ حَصْرٍ، وَلاَ تَطَابُقٍ):
“يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿١﴾” النِّسَآء.
فَاللهُ تَعَالَى بَدَأ بِمُخَاطَبَةِ النَّاس “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ“، ءَامِرًا إيَّاهُم بِاتِّقَاءِ رَبِّهِم، الَّذِى خَلَقَهُم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْ كِلَيْهِمَا (مُجْتَمِعَيْنِ) الكَثِيرَ مِنَ الرِّجَالِ؛ وَهُم: المُتَقَدِّمِيِنَ وَالمُتَقَدِّمَاتِ، وَالقَادِرِينَ وَالقَادِرَاتِ، وَكَذَلِكَ الكَثِيرَ مِنَ النِّسَآءِ؛ وَهُم: المُتَأخِّرُونَ وَالمُتَأخِّرَاتِ، وَالضَعِيِفُونَ وَالضَعِيفَاتِ، وَالَّذِيِنَ تَرْبِطُهُم ـ جَمِيعًا ـ الأَرْحَامُ، وَالعِلاَقَاتُ، ثُمَّ أعَادَ عَلَيْهِم أمْرَهُ بِالتَقْوَى، حَتَّى لاَيَظْلِمُ القَوِىُّ القَادِرُ مِنْهُم الضَعِيفَ، وَلاَ يَجُورُ المُتَقَدِّمُ عَلَى المُتَأخِّرِ، وَلاَ يَحِيِفُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَآءِ، مُذَكِّرًا إيَّاهُم بِأنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِم رَقِيِبٌ.
إذًا فَقَدْ تَأكَّدْنَا بَعْدَ مُنَاقَشَةِ مَا سَبَقَ مِنْ أنَّهُ لَوْ أرَادَ اللهُ تَعَالَى أنْ يَقُولَ أنَّهُ بَثَّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ؛ الجِنْسَيْنِ؛ لَقَالَ:
“وَبَثَّ مِنْهُمَا ذُكُورًا كَثِيرًا وَإِنَاثًا”.
وَذَلِكَ كَمَا قَالَ فِى مَوْضِعٍ ءَاخَر: “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ..“!!
وَلَكِنْ عَلِمْنَا الأَنَ أنَّهُ سُبْحَانَهُ نَصَّ هُنَا عَلَى الرِّجَالِ، والنِّسَآءِ، لِمُقْتَضَى الحَالِ فِى السُّورَةِ، الَّتِى سَتُنَظِّمُ العِلاَقَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ (الأَقْوَى وَالأَقْدَرُ)، وَبَيْنَ النِّسَآءِ (الأَضْعَفُ وَالأَقَلُّ حِيلَةً)، بِالمَعْنَى السَابِقِ شَرْحُهُ.
.
أيْضًا فَبَعْدَ أنْ فَهِمْنَا الأَنَ مَعْنَى النِّسَآءَ عَلَى حَقِيِقَتِهِ؛ فَقَدْ فَهِمْنَا بِالتَبَعِيَّةِ أنَّ هَذِهِ الافْتِتَاحِيَّةَ لِلسُورَةِ، جَآءَت بِهَذِهِ الصِيَاغَةِ الرَّائِعَةِ؛ لِتَتَنَاسَبَ مَع مُوْضُوعِ السُورَةِ، الَّتِى سَتُنَظِّمُ العِلاَقَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ (بِغَضِّ النَّظَرِ عَن الجِنْسِ)، القَادِريِنَ، المُتَقَدِّمِيِنَ، وَبَيْنَ النِّسَآءِ (بِغَضِّ النَّظَرِ عَن الجِنْسِ)، المُثْقَلاَتِ، المُتَأخِّرَاتِ؛
وَلِذَا فَقَدْ كَانَ أوَّلُ مِنْ ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ النِّسَآءِ فِى السُورَةِ؛ هُم الأيْتَامُ (بِاعْتِبَارِهِم مِنَ النِّسَآءِ)؛ فَقَالَ فِى الأَيَةِ الثَانِيَةِ مُبَاشَرَةً:
“وَءَاتُوا ٱلْيَتَـٰمَىٰٓ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰٓ أَمْوَٰلِكُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢﴾” النِّسَآء.
حَيْثُ أنَّ الأَيْتَامَ هُم مِنْ أشَدِّ حَالاَتِ النَسْءِ، وَالتَّأخُّرِ، والضَّعْفِ؛ وَلِذَا بَدَأت السُورَةُ بِهِم. وَمِنْ المُسَلَّمِ بِهِ أنَّ الأَيْتَامَ مِنْهُم ـ جِنْسًا ـ الذُّكُورُ، وَمِنْهُم الإِنَاثُ. وَلَكِنْ كُلاًّ مِنْهُمَا ـ حَالَةً ـ هُوَ فِى الحَقِيقَةِ مِنَ النِّسَآءِ. حَيْثُ يُمَثِّلُ صِغَرُ السِّنِ، وَغِيَابُ الرُّشْدِ عَائِقًا لَهُم عَنْ أنْ يَكُونُوا مِنَ الرِّجَالِ. فَإِذَا مَا كَبَرُوا، وَأُنِسَ مِنْهُم الرُّشْدُ فَسَيَنْتَقِلُوا (ذُكُورًا كَانُوا أمْ إنَاثًا) مِنَ النَّسْءِ المُتَعَلِّقِ بَاليُتْمِ إلَى الرَّجْلِ وَالنَّسْءِ لِلذُّكُورِ، وَإلَى الرَّجْلِ وَالنَّسْءِ المُتَعَلِّقِ بالأُنُوثَةِ لِلإِنَاثِ، عَلَى تَفْصِيِلٍ سَنَلِجُهُ فِى السُّطُورِ القَادِمَةِ.
كَذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ رَجُلٍ (ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى) كَانَ مِنَ النِّسَآءِ يَوْمًا مَا ــ لُزُومًا ــ قِبْلَ أَنْ يَكْبُرَ بِحَسَبِ سِنِّهِ وَظُرُوفِهِ.
وَهَكَذَا؛ وَبِهَذَا الفَهْمِ، يَحِلُّ المَنْطِقُ عَلَى إيْرَادِ الأَيَاتِ، بِهَذَا التَرْتِيِبِ الرَّائِعِ، الَّذِى ظَلَّ قُرُونًا وَهُوَ مَجْهُولٌ لِلكَثِيِرِينَ الَّذِيِنَ لَمْ يُكَلِّفُوا أنْفُسَهُم عَنَآءَ التَّدَبُّرِ.
.
بَقِىَ أنْ نَقُولَ إنَّ تَوْجِيْهَ المَعْنَى إنَّمَا يَكُونُ بِحَسْبِ السِّيَاقِ، فَعِنْدَمَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى ـ مَثَلاً ـ:
“وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُوا ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ ..﴿٢٢٢﴾” البَقَرَة.
“وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍۢ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ ..﴿٢٣١﴾” البَقَرَة.
فالمَعْنَى يَتَوَجَّهُ إلَى الإنَاثِ، بِعَكْسِ الأَمْرِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى السَّابِقَ شَرْحَهُ:
“زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ .. ﴿١٤﴾” ءَال عِمْرَان.
.
تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ مَوْضُوعُ النِّسَآء.
.
تَحَرَّرَ فِى مَسَآءِ يَوْمِ الجُمُعَةِ 22/5/2015 سعة 7.31 م
التَّعْلِيَقَاتُ مَفْتُوحَةٌ هُنَا