“۞ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿١٢٢﴾” التَّوْبَةُ.
وَسَنَقُومُ بِتَحْلِيِلِ مُفْرَدَاتِ الأَيَةِ لِنَصِلَ إِلَى مَعْنَاهَا:
1 ــ المُفْرَدَةُ: نَفْر:
جَآءَت كَلِمَةُ نَفْر ــ بِخِلَافِ الأَيَةِ الَّتِي نُنَاقِشُهَا هُنَا ــ بِمُشْتَقَّاتِهَا سِتَّةَ مَرَّاتٍ بِخَمْسِ ءَايَاتٍ كَالتَّالِي:
الأَيَةُ الأُولَى: “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُوا جَمِيعًا ﴿٧١﴾” النِّسَآء.
الأَيَةُ الثَّانِيَةُ:“يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُوا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْءَاخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْءَاخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿٣٨﴾” التَّوْبَةُ.
الأَيَةُ الثَّالِثَةُ:“إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْـًٔا ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ ﴿٣٩﴾” التَّوْبَةُ.
الأَيَةُ الرَّابِعَةُ:“ٱنفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَـٰهِدُوا بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٤١﴾” التَّوْبَةُ.
الأَيَةُ الخَامِسَةُ:“فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓا أَن يُجَـٰهِدُوا بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِى ٱلْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴿٨١﴾” التَّوْبَةُ.
وَوَاضِحٌ جِدًّا أَنَّ النَّفْرَ هُوَ فِعْلُ هَبٍّ وَتَعْبِئَةٍ خاصٌّ بِالقِتَالِ. وِلِزِيَادَةِ تَأكِيِدٍ سَنَتَعَمَّقُ فِى الأَيَاتِ:
فَأَمَّا الأَيَةُ الأُولَي فَقَدْ أَعْقَبَهَا سُبْحَانَهُ بِالأَيَاتِ التَّالِيَةِ:
“۞ فَلْيُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلْءَاخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٧٤﴾ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ﴿٧٥﴾ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلطَّـٰغُوتِ فَقَـٰتِلُوٓا أَوْلِيَآءَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ۖ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَـٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ﴿٧٦﴾” النِّسَآء.
فَنَجِدُ أَنَّ الأَيَاتِ قَدْ نَصَّت عَلَى القِتَالِ وَالقَتْلِ سَبْعَةُ مَرَّاتٍ، مَا يُوَضِّحُ أَنَّ النَّفْرَ بِالَأَيَةِ هُوَ ــ كَمَا قُلْنَا ــ فِعْلٌ خَاصٌّ بِالخُرُوجِ لِلقِتَالِ.
وَأَمَّا الأَيَاتُ 38، 39، 41 مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ فَتَدُورُ كُلُّهَا عَلَي النَّفْرِ لِلقِتَالِ.
وَأَخِيرًا فَإِنَّ الأَيَةَ 81 مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ فَتَدُورُ أَيْضًا عَلَي النَّفْرِ لِلقِتَال.
إذًا فَفِعْلُ النَّفْرِ هُوَ فِعْلُ خُرُوجٍ خَاصٍّ بِالقِتَالِ حَيْثُ فِيِهِ الاسْتِعْدَادُ وَالتَّجْهِيزُ لِلقِتَالِ، وَهُوَ مَا يَعْنِي فِي أَيَّامِنَا التَّعْبِئَةَ.
وَبِالتَّالِي فَإِنَّ قَوْلَ اللهِ تَعَالَي “وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً ۚ” هُوَ تَوْجِيهٌ رَبَّانِيٌّ لِلمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَيَخْرُجُونَ بِاسْتِعْدَادِهِم القِتَالِيّ إِلَي المَعْرَكَةِ، لَا لِلَّذِينَ يَتَوَهَّمُ المُتَعَالِمُونَ أَنَّهُم سَيَذْهَبُونَ لِيَحْضَرُوا دُرُوسَ فِقْهٍ فِي القُرْءَانِ.
2 ــ المُفْرَدَةُ: فِقْه:
جَآءَت كَلِمَةُ “فِقْه” ــ بِمَا فِيهَا الأَيَةُ الَّتِي نُنَاقِشُهَا هُنَا ــ بِمُشْتَقَّاتِهَا عِشْرُونَ مَرَّةً، كُلُّهَا تَعْنِيَ الفَهْمَ التِّلْقَآئِىَّ، بِعَكْسِ التَّفَقُّهِ الَّذِى يَعْنِى الفَهْمَ بِجُهْدٍ.
● فَاللهُ تَعَالَى أَوْرَدَ الفِقْهَ بِمَعْنَى الفَهْمِ التِّلْقَآئِىِّ كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى:
أ ـ “..أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍۢ مُّشَيَّدَةٍۢ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَـٰذِهِۦ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَـٰذِهِۦ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴿٧٨﴾” النساء.
فَالقَوْمُ لَمْ يَفْقَهُوا أَنَّ المَوْتَ ءَآتٍ لاَ مُحَالَةَ، بِرَغْمِ أَنَّهُ فَهْمٌ تِلْقَآئِىٌّ لاَ يَحْتَاجُ لِبَذْلِ الجَهْدِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ب ـ “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَآ ۚ أُولَـٰٓئِكَ كَٱلْأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ ﴿١٧٩﴾” الأعراف (1).
جـ ـ “وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى ﴿٢٧﴾ يَفْقَهُوا قَوْلِى ﴿٢٨﴾” طه.
● كَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الفَهْمَ التِّلْقَآئِىَّ مُمْتَنِعٌ عَنِ الكَافِرِيِنَ وَالمُنَافِقِيِنَ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِم، وَذَلِكَ لِطَبْعِهِ وَخَتْمِهِ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِم، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ:
“. . وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍۢ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوكَ يُجَـٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا إِنْ هَـٰذَآ إِلَّآ أَسَـٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿٢٥﴾” الأنعام.
“رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿٨٧﴾” التوبة (2).
وَكَنَتِيِجَةٍ لِهَذَا الطَّبْعِ، وَالخَتْمِ فَقَدْ تَدَنَّى فِقْهِ هَؤلآءِ، وَصَارُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيِلاً:
“سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿١٥﴾” الفتح.
“قَالُوا يَـٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ ۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍۢ ﴿٩١﴾” هود.
“فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓا أَن يُجَـٰهِدُوا بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِى ٱلْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴿٨١﴾” التوبة.
● وَبِتَدَبُّرِ هَذَا الَّفْظِ فِي ضَوْءِ الأَيَاتِ السَّابِقَةِ؛ نَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ الفِقْهِ وَالتَّفَقُّهِ. وَلِكَيِّ نُسَهِّلُ بَيَانَ مَا نُرِيدُ أَنْ نَقُولَهُ هُنَا فَلْنَطْرَحَ أَوَّلاً هَذِهِ النَّمَاذِجَ:
يَأخُذُ ــ يَتَّخِذُ
يَذْكُرُ ــ يَتَذَكَّرُ
يَسْأَلُ ــ يَتَسَآءَلُ
يُفَكِّرُ ــ يَتَفَكَّرُ
يَقْرَبُ ــ يَتَقَرَّبُ
فَنَجِدُ أَنَّ الأَخْذَ وَالفِكْرَ وَالقُرْبَ . . الخ هِيَ أَفْعَالٌ فِي شَكْلِهَا البَسِيط، وَقَدْ تَحْدُثُ بِشَكْلٍ تِلْقَآئِيٍّ لَا دَخْلَ لِصَاحِبِهِ بِهِ.
يَقْرُبُ وَيَقْتَرِبُ:
فَالمُوَظَّفُ ــ مَثَلاً ــ لَا يَزَالُ يَتَرَقَّيَ حَتَّىَ يَقْرُبُ مِنَ الوَزِيرِ. وَهَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الهَيْئَاتِ وَالمَصَالِحِ. وَلَكِنَّ الفِعْلَ يَتَقَرَّبُ يَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ سُلُوكًا فَرْدِيًّا مَبْذُولاً مِنْ طَرَفٍ دُونَ طَرَفٍ، يَهْدَفُ بِهِ الأَوَّلُ إِلَي إِحْدَاثِ القُرْبِ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي بِغَيْرِ أَوَانٍ وَلَا أَسْبَابٍ تِلْقَآئِيَّةٍ، وَإِنَّمَا بِمَجْهُودٍ وَحَرَكَةٍ مَقْصُودَةٍ. . .وَهَكَذَا يَطْرُدُ الأَمْرُ فِى بَقِيَّةِ النَّمَاذِجِ أَعْلاَهُ. فَيَكُونُ الفِعْلُ بَسِيِطًا فِى أَوَّلِهِ، ثُمَّ يَتَعَقَّدُ وَيَتَكَثَّفُ بِالجُهْدِ وَالقَصْدِ.
نَعُودُ الأَنَ لِكَلِمَتِنَا: “يَتَفَقَّهُ” فَنَجِدُهَا تَسِيِرُ عَلَى نَفْسِ وَتِيِرَةِ أَخَوَاتِهَا مِمَّا سَبَقَ ذِكْرَهُ هُنَا، وَهِىَ غَيْرُ كَلِمَةِ “يَفْقَهُ”، فَالفِقْهُ يَحْدُثُ لِمُجَرَّدِ تَوَفُّرِ عَنَاصِرِ الحَدَثِ، وَالزَّمَانِ، وَالمَكَانِ، وَهُوَ كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَي:
“وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى ﴿٢٧﴾ يَفْقَهُوا قَوْلِى ﴿٢٨﴾” طه.
● إِذًا فَالتَّفَقُّهُ هُوَ فِعْلٌ فَرْدِيٌّ مُكْتَسَبٌ، يَقُومُ بِهِ طَرَفٌ وَاحِدٌ لإحْدَاثِ فِقْهٍ غَيْرُ عَادِيٍّ، يَتَطَلَّبُ مِنْهُ مَجْهُودًا وَحَرَكَةً مَقْصُودَةً. وَلِذَا جَآءَ الأَمْرُ بِالنَّفْرِ لإِدْرَاكِهِ، وَلَوْلَا هَذَا النَّفْرُ فَلَنْ يَحْدُثَ لاَ تَفَقُّهٍ، وَلَا إِنْذَارٍ، وَلاَ حَذْرٍ، وَسَتَقَعُ الكَارِثَةُ الَّتِي أَرَادَ اللهُ تَعَالَي لِلمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَقَّوْهَا بِفِعْلِ التَّفَقُّهِ.
3 ــ المُفْرَدَةُ: دِيِن:
جَآءَت كَلِمَةُ “دِيِن” ــ فِى كِتَابِ اللهِ بِمَعْنَى الطَّرِيِقِ، وَالسَّبِيِلِ، وَالمَسْلَكِ، سَوَآءٌ كَانَ مَادِّيًّا كَمَا هُوَ فِى الأَيَةِ الَّتِى نُنَاقِشُهَا، أَوْ مَعْنَوِيَّا يَنْتَظِمُ سُلُوكَ السَّالِكِ ــ عَلَى العُمُومِ ــ.
فَهُوَ بِجَمِيِعِ الأَحْوَالِ يُمَثِّلُ المُوَصِّلَ إِلَى مَا يَلِيِهِ. فَدِيِنُ اللهِ هُوَ المُوَصِّلُ للهِ، وَدِيِنِ غَيْرِ اللهِ هُوَ المُوَصِّلُ لِهَذَا الغَيْرِ. وَهُوَ وَاضِحٌ فِى الأَيَاتِ مِنْ سُورَةِ يُوسُفِ الَّتِى يَقُولُ اللهُ تَعَألَى فِيِهَا:
“فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍۢ مَّن نَّشَآءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴿٧٦﴾“.
وَمِنَ البَدَهِيّ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَأخُذ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ بِمَعْنَي أَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَدَيِّنًا بِدِينِ المَلِكِ، خَاصَّةً أَنَّ يُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عَزِيزَ مِصْرَ قَالَ فِي سِجْنِهِ:
“….إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍۢ لَّا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ ﴿٣٧﴾ وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِىٓ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَىْءٍۢ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴿٣٨﴾“.
وَإِنَّمَا المَعْنَى اللَّازِمَ لِقَوْلِهِ: “لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ٱلْمَلِكِ“، فِي ضَوْءِ المُعْطَيَاتِ الأُخْرَى هُوَ أَنَّهُ انْتَزَعَ أَخَاهُ مِنْ بِيْنِ إِخْوَتِهِ، وَأَخَذَهُ فِي السِّلْكِ المَلَكِيِّ، وَهُوَ هُنَا الطَّرِيقُ بِالمَعْنَى المَعْنَوِيِّ الضَّيِّق وَالمُخَصَّصُ فِى ضَوْءِ بَقِيَّةِ الأَيَاتِ المَذْكُورَةِ.
وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ يُونُس:
“هُوَ ٱلَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍۢ طَيِّبَةٍۢ وَفَرِحُوا۟ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌۭ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍۢ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ ﴿٢٢﴾ فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ۗ …“.
فَالمُشْرِكُونَ هُنَا عِنْدَمَا ظَنُّوا أَنَّهُم أُحِيطَ بِهِم دَعُوا اللهَ ءَاخِذِينَ عَلَي أَنْفُسِهِم العَهْدَ بِأَنَّهُ إِذَا مَا أَنْجَاهُم مِنَ المَوْتِ فَسَيَكُونُ لَهُم طَرِيقٌ وَاحِدٌ فِي عِبَادَتِهِم، وَهُوَ طَريِقُ اللهِ خَالِصًا لَهُ وَحْدَهُ. فَالدِّينُ هُنَا جَآءَ بِمَعْنَى الطَّرِيقُ المَعْنَوِيُّ.
إِذًا فالدِّيِنُ هُوَ السَّبِيِلُ وَالمَسْلَكُ، وَالطَّرِيِقُ. مَعْنَوِيًّا كَانَ أَوْ مَادِّيًّا. وَدِيِنُ اللهِ استَوْدَعَهُ كِتَابَهُ، لِيَهْدِىَ إِلَى طَرِيِقِهِ، وَلِذَا سُمِّىَ بِالهُدَى، كَمَا قَالَ:
” هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴿٣٣﴾” التَّوْبَةُ.
وَسُمِّىَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِيَوْمِ الدِّيِنِ (مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ) لأَنَّهُ اليَوْمَ الَّذِى سَيُنْظَرُ فِيِهِ لِمَسْلَكِ كُلِّ وَاحِدٍ فِى دُنْيَاهُ.
وَهَكَذَا.
4 ــ المُفْرَدَةُ: حَذْر:
الحَذْرُ فِعْلُ تَرَقُّبٍ، وَتَوَقٍّي، مَبْنِيٌّ عَلَي التَّوَقُّعِ وَبَسْطِ الاحْتِمَالاَتِ. وَقَدْ جَآءَت كَلِمَةُ حَذْرِ ــ بِخِلاَفِ الأَيَةِ الَّتِي نُنَاقِشُهَا هُنَا ــ بِمُشْتَقَّاتِهَا عِشْرُونَ مَرَّةٍ كُلُّهَا تَعْنِي اتِّخَاذِ الاحْتِيَاطِ وَالتَّرَقُّبِ لِلتَّوَقِّي، نَذْكُرُ مِنْهَا التَّالِي:
“۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُوا۟ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُوا۟ ثُمَّ أَحْيَـٰهُمْ ۚ ….﴿٢٤٣﴾” البقرة.
فَالقَوْمُ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِم خَوْفًا مِنَ المَوْتِ وَتَوَقٍيٍ مِنْهُ.
كَذَلِكَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى:
“وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوٓا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَٰحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ﴿١٠٢﴾” النساء.
نَجِدُ أَنَّ المَطْلُوبَ هُنَا هُوَ أَنْ يُبقِيَ المُسْلِمُونَ عَلَي أَسْلِحَتِهِم بِأَيْدِيهِم أَثْنَآءَ الصَّلَاةِ تَرَقُّبًا وَتَوَقِيًّا مِنْ غَدْرِ العَدُوِّ.
” وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنۢ بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًۭا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ ﴿٤٩﴾” المائدة.
5 ــ المُفْرَدَةُ: نَذْر:
الإِنْذَارُ فِعْلُ تَخْوِيفٍ لِأَمْرٍ مُحَدَّدٍ وَشِيكُ الوقُوعِ، وَهُوَ كَإِنْذَارِ هُودٍ لِقَوْمِ عَادٍ:
“۞ وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُۥ بِٱلْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦٓ أَلَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّا ٱللَّهَ إِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍۢ ﴿٢١﴾” الأحقاف.
وَقَدْ تَحَقَّقَ العَذَابُ ــ مَوْضُوع الإِنْذَارِ ــ بَعْدَ الإِنْذَارِ بِقَلِيلٍ.
هُنَا فِي دِيِنِ الإِسْلَامِ ــ كَبَقِيَّةِ الرِّسَالَاتِ السَّابِقَةِ ـ يَأتِي الإِنْذَارُ بِكِتَابِ اللهِ، وَيَأتِي التَّخْويِفُ بِنُصُوصِ الأَيَاتِ، وَلَا عِلَاقَةَ لَهَا بِإِنْذَارِ فَقِيِهٍ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ تَعَالي:
“كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌۭ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾” الأعراف.
“الٓمٓ ﴿١﴾ تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿٢﴾ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۚ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًۭا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٍۢ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿٣﴾” السجدة.
“وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّۭا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌۭ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌۭ فِى ٱلسَّعِيرِ ﴿٧﴾” الشورى.
◄ وَالأَنَ؛ ــ وَبَعْدَ مَا فَقِهْنَاهُ مِنَ الشَّرْحِ السَّابِقِ ــ سَنَقُومُ بِجَمْعِ المَعَانِي، الَّتِي تَوَصَّلْنَا إِلَيْهَا سَلَفًا، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلى الأَيَةِ وَسَطِ الأَيَاتِ السَّابِقَةِ لَهَا وَالتَّالِيَةِ عَلَيْهَا:
“يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَكُونُوا۟ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ ﴿١١٩﴾ مَا كَانَ لِأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا۟ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا۟ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌۭ وَلَا نَصَبٌۭ وَلَا مَخْمَصَةٌۭ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَـُٔونَ مَوْطِئًۭا يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّۢ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٌۭ صَـٰلِحٌ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴿١٢٠﴾ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةًۭ صَغِيرَةًۭ وَلَا كَبِيرَةًۭ وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿١٢١﴾ ۞ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا۟ كَآفَّةًۭ ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌۭ لِّيَتَفَقَّهُوا۟ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا۟ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿١٢٢﴾يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا۟ فِيكُمْ غِلْظَةًۭ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴿١٢٣﴾“.
فَنَجِدُ هُنَا أَنَّ التَّوْجِيهَاتِ الرَّبَّانِيَّةَ تَتَنَاوَلُ جُزْئِيَّاتِ القِتَال:
1 ـ فَتَبْدَأُ بِطَلَبِ التَّقْوَى وَالصِّدْقِ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
2 ـ مُحَذَّرَةً أَهْلَ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ.
3 ـ ثُمَّ تُحَذِّرَهُم مِنْ أَنْ يَنْفِرُوا كَافَّةً بِكُلِّ فِرَقِهِم (3)، وَإِنَّمَا استَثْنَت مِنْهُم بَعْضَ الطَّوَائِفِ (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌۭ) لِيَقُومُوا بِفِعْلِ نَفْر.
4 ـ وَتُوَجِّهَهُم إِلَي لُزُومِ أَنْ يَقُومَ هَؤُلآءُ البَعْضِ بِهَذَا النَفْرِ (السَّبِقِ إِلَي الجِهَاتِ المَطْلُوبَةِ) المُسْتَلْزِم لِلجُهْدِ، وَذَلِكَ لِاسْتِيضَاحِ (تَفَقُهِ) الطَّرِيِقِ (الدِّيِن) لِلتَّأَكُّدِ مِنْ سَلَاَمَتِهِ. وَهُوَ مَا نُسَمِّيِهُ اليَوْمَ بِالاسْتِطْلاَع. وَهُوَ عَمَلُ مُخَابَرَاتِىٌّ بَحْتٌ.
5 ـ ثُمَّ تَعُودُ كُلُّ طَائِفَةٍ اسْتَوْضَحَت (تَفَقَّهَت) الطَّرِيِقَ (الدِّيِن) إِلَي فِرْقَتِهَا لِتُنْذِرَهَا بِإِحْدَاثِيَّاتِ المَعْرَكَةِ وَأَحْوَالِ العَدُوِّ ــ إِنْ أَمْكَنَ ــ لِيَأخُذُوا حِذْرَهُم، فَلَا يُؤْخَذُوا بَغْتَةً. وَفِعْلُ التَّفَقُّهِ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّهُ يَتَعَدَّى الفِقْهَ إِلَي مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ مِنْ طَلَبِ الحَرَكَاتِ المَقْصُودَةِ لإِدْرَاكِهِ.
وَهَذِهِ التَوْجِيهَاتُ تُبَدِّدُ مَا قَدْ يَتَسَرَّبُ إِلَي المُؤْمِنِيِنَ مِنْ وَسْوَسَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ تَحُضُّهُم عَلَي التَّوَاكُلِ، وَالظَّنِّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَي سَيَنْصرَهُم مَهْمَا كَانَ مَوْقِفَهُم. وَهِيَ تُمَاثِلُ ءَايَاتِ النِّسَآءِ الَّتِي وَضَعَت نِقَاطًا فِي غَايَةِ الأَهَمِّيَّةِ فِي مَوْضُوعِ أَخْذِ الحَذْرِ مِنْ غَدْرِ العَدُوِّ:
“وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوٓا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَٰحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ﴿١٠٢﴾” النساء.
6 ـ ثُمَّ تَخْتِمُ الأَيَاتُ بِتَوْجِيهِ المُؤْمِنِينَ لإِظْهَارِ الغِلْظَةِ عَلَي الكُفَّارِ!
7 ـ وَوَاضِحٌ بِلَا عَنَآءٍ أَنَّ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ هِيَ تَوْجِيهَاتٌ مُسْتَمِرَّةٌ، تُلْزِمُ المُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، بِأَنْ يَأخُذُوا بِالأَسْبَابِ وَلاَ يَتَوَاكَلُوا، وَلَيْسَتْ تَوْجِيِهَاتٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِفُقَهَآءِ الدِّيِنِ الإِسْلاَمِىِّ بِأَنْ يُنْذِرُوا مَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِم لِيَسْتَفْتِيِهِم، وَأَلاَّ يُصْدِرُوا أَحْكَامًا عَلَى النَّاسِ بِالتَّكْفِيِرِ كَمَا يَزْعُمُ الجَهَلَةُ أَمْثَالُ سَمِيِر إِبْرَاهِيِم خَلِيِل حَسَن وَغَيْرِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: “قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَـٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴿٦٥﴾” الأنعام.
وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِى كُلِّ بِقَاعِ الأَرْضِ، وَلَكِنَّهُم فَقَدُوا القُدْرَةَ عَلَى الفِقْهِ، بِعْدَ أَنْ أُصِيِبَت بَصِيِرَتُهُم.
“وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْءَايَـٰتِ لِقَوْمٍۢ يَفْقَهُونَ ﴿٩٨﴾” الأنعام.
2 ـ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
“وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُۥ وَلَّوْا عَلَىٰٓ أَدْبَـٰرِهِمْ نُفُورًا ﴿٤٦﴾” الإسراء.
“وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَـٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوٓا إِذًا أَبَدًا ﴿٥٧﴾” الكهف.
“ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿٣﴾” المنافقون.
3 ـ ومعلوم أن أي جيش ينقسم إلي فرقٍ بحسب التنوع، ففرقة المُشاة لا تختلط مثلاً بفرقة الخيالة، وإنما تنقسم كل واحدة منهما في موقع مختلف سواء مقدمة أو مؤخرة أو ميمنة أو ميسرة، . . . وهكذا.
.