جَهْلُ مُحمَّد شَحْرُور بِعِلْمِ اللهِ: 3 ـ الجُزْءُ الثَّانِى

الجُزْءُ الثَانِى: الرَدُّ عَلَى الشُبُهَاتِ

الشُبْهَةُ الأُولَى: العِلْمُ يَقْتَضِى الجَبْر، والجَهْلُ سَبيلُ الحُرِّيَةِ وَالعَدْلِ:

أكْثَرَ المُعْتَرِضُونَ مِنَ الكَلاَمِ عَن العَدْلِ، وَأنَّهُ لَوْ كَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بِأَعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، لَكَانَ هَذَا الوُجُودُ هُوَ مُجَرَّدَ تَمْثِيلِيَّةٍ، وَلَمَا كَانَ لأَحَدٍ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِ، وَلَذَهَبَ الاخْتِيَارُ فِى خَبَرِ كَانَ. لَمْ يَرْضَ هَؤلاَءِ إلاَّ بِأَن يَكُونَ اللهُ جَاهِلاً (وَحَاشَاهُ) بِمَا سَيَكُونُ مِن أعْمَالِ العِبَادِ مُسْتَقْبَلاً لِيَتَحَقَّقَ العَدْلَ بِنَظَرِهِم. انْظُر لِقَوْلِ الشَحْرُور:

“لنناقش أنه لو كان يدخل في علم الله منذ الأزل ماذا سيفعل زيد في حياته الواعية وما هي الخيارات التي سيختارها زيد منذ أن يصبح قادرا على الاختيار إلى أن يموت. فالسؤال لماذا تركه إذا كان يعلم ذلك؟ هنا من أجل تبرير هذا الأمر ندخل في اللف والدوران فنقول إن الله علم منذ الأزل أن أبا لهب سيكون كافرا، وأن أبا بكر الصديق سيكون مؤمنا. ثم نقول إن أبا لهب اختار لنفسه الكفر وأبو بكر اختار لنفسه الإيمان. إن هذا الطرح لا يترك للخيار الإنساني الواعي معنى، وإنما يجعله ضربا من الكوميديا الإلهية مهما حاولنا تبرير ذلك”.

وَوَاللهِ إِنَّهُ كَلاَمٌ لاَ يُسَاوى حَتَّى قِيمَةِ الحِبْرِ الَّذِى خُطَّ بِهِ، وَالأَهَمُّ أنَّهُ لاَ يَسْتَنِدُ إلَى ءَايَةٍ وَاحِدَةٍ مِن كِتَابِ اللهِ، فَضْلاً عَنْ جَهْلِهِ بِأَبِى لَهَبٍ، وَظَنِّهِ الخَائِبِ بَأَنَّهُ الشَّخْصِيَّةُ التَارِيِخِيَّةُ الهَزَلِيَّةُ!!

وَلِعَلَّ مَا جَاءَ بِالمَحَاورِ الخَمْس السَابِقَةِ كَانَ فِيهِ أبْلَغُ الرَدِّ، مِن خِلاَلِ مَا اسْتَعْرَضْنَاهُ مِن عَشَرَاتِ الأَيَاتِ. إلاَّ أنَّنَا لَنْ نَعْتَمِدَ عَلَى مَا سَبَقَ وَكَفَى، وَإنَّمَا سَنُبَيِّنُ هُنَا حَقِيقَةُ العِلاَقَةِ بَيْنَ عِلْمِ اللهِ المُسْبَقِ، وَبَيْنَ اخْتِيَارِ العَبْدِ.

6/1/31 ـ العِلْمُ المُسْتَقْبَلِىّ بِأعْمَالِ العِبَادِ هُوَ عِلْمٌ بِالاخْتِيَاراَتِ:

فَنَحْنُ بَعْدَ مَا طَالَعْنَاهُ فِى المَحَاورِ الخَمْسَةِ السَابِقَةِ تَبَيَّنَ لَنَا بِوُضُوحٍ فَسَادَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِن أَنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَعْلَمُ أَعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، وَتَبَيَّنَ أنَّ عِلْمَ الله تَعَالَى مُحِيطٌ بِالكَوْنِ؛ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ جَارٍ، وَمَا سَيَكُونُ بِمَا فِى ذَلِكَ مَا سَيَحْدُثُ مُسْتَقْبَلاً مِن أَعْمَالُِ العِبَادِ، وَأَيْضًا؛ مَا لَمْ يَكُن كَيْفَ كَانَ سَيَكُونُ لَوْ كَانَ. وَلَكِنَّنَا نُلاَحِظُ هُنَا أنَّ هُنَاكَ نِقَاطًا جَوْهَرِيَّةً أوْقَعَت الشحْرُورَ وَأَمْثَالَهُ فِى هَذِهِ الوَرْطَةِ غَيْرُ السَهْلَةِ، مِنْهَا:

أنَّ شَحْرُورَ وَأمْثَالَهُ لاَ يَقُومُونَ بِتَرْتِيلِ القُرْءَانِ، وَبِالتَالِى فَهُم كَمَن يَتْلُوا: “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقْرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ“، ثُمَ يَسْكُت، وَلِذَا غَابَت عَنْهُ كَوْكَبَةٌ مِن الأَيَاتِ المُنِيِرَةِ لِهَذِهِ الظُلْمَةِ الَّتِى طَرَحَهَا وَالَّتِى يَسْبَحُ فِيهَا، وَيَدْعُوا غَيْرَهُ لَهَا.

كَذَلِكَ فَقَدْ خَلَطَ المِسْكِينُ بَيْنَ العِلْمِ وَبَيْنَ الاخْتِيَارِ، فَبَدلاً مِن أنْ يَفْهَمَ أنَّ اللهَ تَعَالَى عَالمٌ بالاخْتِيَارَاتِ الَّتِى سَيخْتَارُهَا النَّاسُ حِينَ يُوجَدُوا أحْرَارًا، سَمَّى ذَلِكَ بالَّفِ والدَوَرَانِ. وَبَدَلاً مِن أنْ يَفْهَمَ أنَّ عِلْمَ اللهِ لَن يَصلُحَ وَحْدَهُ عِنْدَ النَّاس كَمِعْيَارٍ لِلتَمْييز، والحِسَابِ، وَلِذَا لَزَمَ الوَاقِع، وَبِالتَالِى لَزِمَ أيضًا التَطَابُقَ بَينَ العِلمِ وَبَيْنَ الوَاقع، رَاحَ يُسَمِّىَ ذَلِكَ بِالكُومِيديَا الإلَهِيَّةِ. وَلم يُقْنِعَهُ لِتَحْقِيقَ العَدْلِ وتَحْقِيقَ حُرِيَّةِ الاخْتِيَار إلاَّ أن يَكُونَ اللهُ (وَحَاشَاهُ) جَاهِلاً بِمَا سَيَحْدُثُ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ. انْظُرُوا لِقَوْلِهِ:

“لو كان يدخل في علم الله منذ الأزل ماذا سيفعل زيد في حياته الواعية وما هي الخيارات التي سيختارها زيد منذ أن يصبح قادرا على الاختيار إلى أن يموت. فالسؤال لماذا تركه إذا كان يعلم ذلك؟”.

فَوَاللهِ إنِّى لأَتَعَجَّبُ أن يَنْسِبَ نَفْسَهُ لِلتَحْقِيق وَالدِرَاسَةِ، ثُمَّ يَكُونَ هَذَا هُوَ مَحضُ سُؤَالِهِ!!

تَرَكَهُ يَا فَقِيه وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لأَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ لِلّنَاس حُرّيَةِ الاخْتِيَارِ فِى هَذِهِ الدُنيَا، وَلاَ تَقُومُ الحُجَّةُ عَلَيْهِم إلاَّ بِاخْتِيَارَاتِهِم، وَلاَ يُقِرُّونَ بِالعِلمِ المُجَرَّدِ. بَل إنَّ اللهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أنَّهُ سَيَبْتَلِىَ النَّاسَ لِيَعْلَمَ مَوَاقِفَهُم، حَتَّى لاَ يَظُنُّ مَن تَبَحَّرَ فِى العِلْمِ، وتَيَقَّنَ مِن أنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكَوْنِهِ، حَاضِرًا، وَمَاضِيًا، وَمُسْتَقْبَلاً، أنَّ الأَمْرَ مُنْتَهٍ، وَهُوَ مَا سَتُوَضِّحَهُ النُقْطَةُ التَالِيَة.

وَلَوْ رَاجَعْنَا مَا سَبَقَ ذِكْرَهُ مِنَ العِلْمِ لَوَجَدْنَا أنَّهُ لاَ يَتَعَارَضُ مَعَ حُرْيَّةِ الاخْتِيَار فِى شَيْءٍ. وَلْنَضْرِبَ مَثَلاً:

لِنَفْتَرضَ أَنَّ “س” أَعْلَمَ “ص” بأَنَّهُ سَيَفْعَلُ فِعْلاً مَا، ثُمَّ ذَهَبَ وَفَعَلَهُ، فَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ عِلْمَ “ص” بِمَا سَيَفْعَلُهُ “س” قَبْلَ حُدُوثِهِ جَعَلَ “س” مُضْطَّرٌ لِفِعْلِ مَا أخْبَرَ بِهِ “ص”؟!!!

أيْضًا لَوْ قُلْنَا أنَّ الأبَوَيْنِ يَعْلَمَانِ مَا سَيَفْعَلَهُ إبْنَهُمَا فُلاَن فِى مَوْقِفٍ مَا، فَهَل يَعْنِى ذَلِكَ أنَّ الإبنَ مُرْغَمٌ عَلَى العَمَلِ، أم أنَّهُمَا كَانَا يَعْلَمَان بِاخْتِيَارِهِ؟

وَلَوْ قُلْنَا (وَللهِ المَثَلُ الأعْلَى) أنَّ الإنْسَانَ نَجَحَ فِى السَفَرِ عَبْرَ الزَّمَنِ فَاسْتَطَاعَ أنْ يُشَاهِدَ وَيُدْرِكَ مَا سَيَحْدُثُ مِن أعْمَالِ النَّاسِ فَهَل يَعْنِى ذَلِكَ عَدَمَ انْفِكَاكِهِم مِن فِعْلِ اخْتِيَارَاتِهِم؟

6/2/32 ـ هَل يَقُومُ اللهُ تَعَالَى بِتَعْطِيلِ عِلْمِهِ لِيَرْضَى النَّاس:

فَنَحْنُ مِن خِلاَلِ مَا اسْتَعْرَضْنَاهُ فِى المَحَاوِرِ الخَمْسِ عَرِفْنَا أنَّ عِلْمَ اللهِ مُحِيطٌ بِكِلِّ شَيْءٍ:

“..لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا ﴿١٢﴾“.

فَهَل يَرَى المُفْتَئِتُ، عَلَى اللهِ وعِلْمِهِ، أنْ يَقُومَ اللهُ تَعَالَى، بِتَعْطِيلِ عِلْمِهِ الأزَلِىِّ، بِمَا سَيَحْدُثُ مِن عِبَادِهِ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، وَيَصِيرُ مِثْلَ خَلْقِهِ لاَ يَعْلَمُ، اللهُمَّ إلاَ العِلْمُ بِالاحْتِمَالاَتِ مِثْلِنَا، حَتَّى يَرْضَى هُوَ وأشْبَاهِهِ عَلَى اللهِ؟!

لَقَدْ أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى كِتَابَهُ نُورًا، يَهْتَدِى بِهِ المُؤمِنُونَ، وَيُكَوِّنُونَ قَاعِدَةَ مَعْلُومَاتِهِم مِنْهُ: “فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا..”. وَكَانَ الأَولَى لِشَحْرُورٍ وَأشْبَاهِهِ أنْ يَتَوَقَّفُوا عِنْدَ مَا جَاءَ بِكِتَابِ اللهِ مِن نُورٍ، بَدَلاً مِن تَوظِيفِ الأيَاتِ لِسَقِيِمِ أفْكَارهِم، وَمَرِيِضِ مُعْتَقَدَاتِهِم، وَإِلاَّ فَلْيُرِنَا رَدَّهُ عَلَى كَوْكَبَةِ الأَيَاتِ الَّتِى سُقْنَاهَا، وَالَّتِى لَم يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْهَا عِنْدَمَا زَخْرَفَ لِلنَّاسِ أنَّ اللهَ تَعَالَى جَاهِلٌ بِمَا سَيَفْعَلُهُ النَّاسُ مُسْتَقْبَلاً عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ.

ألَم يَجِدُ هَؤلاَءِ إلاَّ اللهَ تَعَالَى لِيَخُوضُوا فِيهِ؟

وَيَالَيْتَ كَانَ هُنَاكَ ذَرَّةَ عِلِمٍ تَسْتُرُ مَا هَرِفوا بِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنَّمَا غَفَلَ هَؤُلاَءِ الأَسَاتِذَةِ عَن قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًۭى وَلَا كِتَـٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ ﴿٨﴾ ثَانِىَ عِطْفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ لَهُۥ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌۭ ۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ﴿٩﴾ ذَ‌ٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ ﴿١٠﴾الحج.

إذْ أنَّهُ قَدْ تَوَفَّرَ فِى طَرْحِهِم السَابِق:

1 ـ إنَّهُ جِدَالٌ فِى اللهِ.

2 ـ إنَّهُ جِدَالٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدَىً (وَهُوَ مَا سَنَتَأكَّدُ مِنْهُ).

3 ـ إنَّهُ جِدَالٌ بِغَيرِ أىّ دِرَاسَةٍ مِن الكِتَابِ المُنِير.

4 ـ إنَّ طَرْحَهُم فِيهِ ثَنى العِطْفِ، وَفِيهِ الإضْلاَل عَن سَبِيلِ اللهِ.

وَلِذَا فَإِنَّنِى هُنَا أنْصَحُهُمَا بِالتَوْبَةِ، وَأُحَذِّرُهُمَا (وَمَن قَدْ يَحْذُو حِذْوَهُمَا) مِن التَمَادِى.

6/3/33 ـ تَخَبُط القَوْمِ فِيمَا لَمْ يَحْسَبُوا لَهُ حِسَابًا:

أيْضًا فَمِن خِلاَلِ مَا اسْتَعْرَضْنَاهُ فِى المَحَاوِرِ الخَمْسِ وَجَدْنَا أنَّ اللهَ تَعَالَى فِعْلاً عَلَى عِلْمٍ وَإحَاطَةٍ بِأعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ ـ طِبْقًا لِكَلاَمِ الشَحْرُورِ وَفَرِيقِهِ ـ يَجَعْلُ مِنَ هَذِهِ الحَقِيقَةِ كُومِيدِيَا، وَنَوْعٌ مِن أنْوَاعِ العَبَثِ. فَإذَا كَانَ شَحْرُورُ قَدْ قَالَ مَا قَالَهُ وَهُوَ يُسَوِّقُ لِرؤيَتِهِ وَهُوَ مُغَيَّبٌ عَن حَشْدِ الأَيَاتِ الَّتِى سُقْنَا بَعْضًا مِنْهَا، وَالَّتِى يَثْبُتُ بِهَا العِلْمُ المُسْبَقُ، فَقَدْ تَحَوَّلَت الرُؤيَةُ المَذْكُورَةُ إلَى نَوْعٍ مِن الانْتِقَاصِ للهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَخُذْ عِنْدَكَ بَعْضَ ذَلِكَ. يَقُولُ تَعَالَى:

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿١١٦﴾الأنعام.

فَلِمَاذَا إذًا خَلَقَهُم اللهُ وهُم كَذَلِكَ؟ بَل إنَّ الأمْرَ أبْعَدَ مِن هَذَا؛ إذ أنَّ اللهَ تَعَالَى أرَادَ أنْ يَبْتَلِيهِم وَيُحَمِّلَهُم الأمَانَةَ:

إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا…﴿٧٢﴾الأحزاب.

بِنَفْسِ الوَقْتِ الَّذِى تَأتِى تَكْمِلَةُ الأَيَةِ لِيَقُولَ اللهُ فِيهَا عَنِ الإنْسَانِ:

..وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَـٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًۭا جَهُولًۭا ﴿٧٢﴾“.

وَالسُؤَالُ هُنَا لِشَحْرُورِ وَأَمْثَالِهِ هُوَ:

ألَم يَتَبَيَّنَ للهِ تَعَالَى أنَّ الإنْسَانَ فِى مُجْمَلِهِ ظَلُومٌ وَجَهُولٌ مِن قَبْلِ أنْ يَحْمِلَ الأَمَانَةَ؟

فَإذَا كَانَت الإجَابَةُ بِالإيجَابِ فَنَقُولُ: فَهَل تَجِدُ أى كُومِيديَا هُنَا؟

وَهَل هُنَاكَ ثَمَّةَ فَارِقٍ عِنْدَكَ بَيْنَ العِلْمِ المُسْبَقِ بِأَنَّ الإنْسَانَ ظَلُومٌ وَجَهُولٌ مِن قَبْلِ الابْتِلاَءِ، وَبَيْنَ العِلْمِ المُسْبَقِ بِعَمَلِ الإنْسَانَ فِى الدُنْيَا، مِن النَاحِيَةِ الكُومِيدِيَّةِ الَّتِى زَعَمْتَهَا لِهَذَا العِلْمِ الأَخِيرِ؟ . .

ولاَ أُرِيدُ أنْ أُطِيلَ النَفَسَ فِى اسْتِعْرَاضِ عَشَرَاتِ المَوَاضِيعِ المَشَابِهَةِ لِمَا أُغْلِقَ فَهْمُهَا عَلى شَحْرُورِ وَأشْبَاهِهِ، وَلَكِن لِنُوَضِّحَ لَهُ:

6/4/34 ـ العِلْمُ المُسْتَقْبَلِىّ بِأعْمَالِ العِبَادِ وَالعِلْمُ الوَاقِعِىُّ:

بِرَغْمِ كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرَهُ مِنْ حَقَائِقٍ عَنْ عِلْمِ اللهِ وقِيَامِهِ بِالقِسْطِ؛ فَلَنْ يُفْلِحَ مَع النَّاسِ أَنْ يَقُوْمَ اللهُ تَعَالَى بِتَمْيِيزِهِم بُنَاءً عَلَى عِلْمِهِ إلَى فَرِيقَيْنِ، فَيَقُولُ لِلْفَرِيقِ الأَوَّلِ: أَنْتُم ــ بِعِلْمِي ــ أَصْحَابُ الجَنَّةِ، لَوْ أَهْبَطْتُُكُم إلَى الدُنْيَا لِتُمْتَحَنُوا وَتُبْتَلُوا فِيهَا فَسَتَعْمَلُونَ الصَالِحَاتِ ــ بِعِلْمِي ــ، وَيَقُولُ لِلْفَرِيقِ الأَخَرَ: أَنْتُم أَصْحَابُ النَّار ادْخُلُوهَا بِمَا عَلِمْتَهُ مِنْكُم، فَلَوْ أَهْبَطْتُكُم لِلابْتِلاَءِ وَالاِمْتِحَانِ فِي الدُنْيَا لَفَعَلْتُم الشُرُورَ وَالأَثَام!

وَمِن ثَمَّ فَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ لِلتَمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِ وُجُودًا حَقِيقِيًّا يُوجَدُوا فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ فِيهِ عِلْمُ اللهِ “عِنْدَ النَّاسِ”، أَوْ لِيَتَحَوَّلَ فِيهِ عِلمُ اللهِ “الكَائِن بِدُونِ وَاقِعٍ” إلَى عِلْمُ اللهِ الكَائِنُ بِالوَاقِعِ، وَيَتَطَابَقُ الوَاقِعُ مَعَ عِلْمِهِ، وَكَأنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ لِلنَّاسِ بِهَذَا الوُجُودِ: أَنْتُم لَنْ تَرْضَوْا (دَاخِلكُم) بِعِلمِيَ الأَزَلِيّ؛ فَأرَدْتُ أَنْ يَكُونَ عِلْمِي بِشَهَادَتِكُم أَنْتُم عَلَى أنْفُسِكُم. أوْ بِمَعْنًى ءَاخَرَ: أرَادَ سُبْحَانَهُ أنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِمَنْطِقِ النَّاسِ، وَحِسَابَاتِهِم البَشَرِيَّةِ، وَهُوَ كَقَولِهِ تَعَالَي: “ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”. وَعَلَى ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌۭ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌۭ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿١٤٠﴾ءال عمران .

فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: “وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ” يَعْنِي: وَلِيَعْلَمَ اللهُ (عِنْدَكُم وَبِتَسْلِيمٍ مِنْكُم) بِالوَقَائِعِ وَالأَحْدَاثِ الحَاصِلَةِ مِنْكُم. وَكَذَلِكَ يَتنزَّلُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُۥٓ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلْغَيْبِ ۚ…﴿٩٤﴾المائدة.

وَيَكُونُ المَعْنَى هُوَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْتَلِي المُؤْمِنِينَ بِشَيءٍ حَرَّمَهُ عَلَيْهِم لِيَعْلَمَ (عِنْدَهُم وَبِتَسْلِيمٍ مِنْهُم) بِالوَقَائِعِ مَنْ يَخَافَهُ بِالغَيْبِ. إذْ النَّاسُ لاَ تُصَدِّقُ إلاَّ بِمَا عَايَشَتْهُ، وَخَبِرَتْهُ، وَوَقَعَ تَحْتَ حَوَاسِّهَا (1).

إذًا فَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أنَّ “س” مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ مُؤْمِنًا، وَأَنَّ “ص” مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ كَافِرًا، دُونَ أنْ يَكُونَ لأَىٍّ مِنْهُمَا وُجُودٌ فِى الدُنْيَا بَعْد، ثُمَّ تَتَتَالَى الأَحْدَاثُ، وَيَأتِى “س”، و: “ص” إلىَ الدُنْيَا، ويُبْتَلَىَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالخَيْرِ وَالشَرِّ لِيَتَمَحَّصَا، فَيَكُونُ “س” كَمَا عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، صالِحًا، مُؤْمِنًا، وَيَكُونُ “ص” كَمَا عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَاسِدًا، كَافِرًا، ويَصْدُقُ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى الَّذِى أحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

6/5/35 ـ إذًا فَالعِلْمُ عِلْمَانٍ:

فَخُلاَصَةُ مَا طَالَعْنَاهُ فِى الصَفَحَاتِ السَابِقَةِ، وَالأَيَاتِ الَّتِى دَرَسْنَاهَا هُوَ أَنَّ عِلْمَ اللهِ مِنْهُ مَا هُوَ مُجَرَّدٌ عَنِ الوَاقِعِ، وَبِالتَالِى فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا سَيَكُونُ، وَمَا لَنْ يَكُونَ، سَوَاءٌ حَدَثَ فِيمَا بَعْد أو لَم يَحْدُث عَلَى الإطْلاَقِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَرْتَبِطٌ بِالوَاقِعِ أثْنَاءَ وَبَعْدَ حُدُوثِهِ، لِمَا أرَادَ اللهُ لَهُ أنْ يَحْدُث. وَمِنَ البَدِيهِىّ أنَّ يَتَطَابَقَ العِلْمَانُ. وَلِتَقْرِيبِ المَسْألَةِ إلَى الذِهْنِ (مَعَ الفَارِقِ) فَنُشَبِّهُ ذَلِكَ بَالعِلْمِ النَّظَرِىِّ، والعِلْمِ العَمَلِىِّ؛ فَالأَوَّلُ مَبْنِىٌّ عَلَى عِلْمٍ ثَابِتٍ، وَيُصَدِّقُهُ الثَانِى عَمَلِيًّا، وَذَلِكَ كَالتَجْرُبَةِ الَّتِى تُجْرَى كَتَصْدِيقٍ لِلثَوَابِتِ العِلْمِيَّةِ. وَلَم يَقُل أحدٌ أبْدًا بِأَنَّ التَجْرُبَةَ العِلْمِيَّةِ هِى تَمْثِيليةٌ، أو نَوْعٌ مِن الكُومِيديَا. وَهَذِهِ الحَقِيقَةِ تُفْهَمُ مِن اسْتِقْرَاءِ الأَيَاتِ مُجْتَمِعَةً.

6/6/36 ـ وَالعِلْمُ يَعْنِى العِلْم لاَ الإجْبَار:

إنَّ المُخَالِفَ يَقُولُ: هَل يُمْكِنُ أنْ يَحْدُثَ وَاقِعًا، حَدَثٌ مَا، مَهْمَا دَقَّ أوْ لَطُف، وَيَكُونُ مُخَالِفًا لِعِلْمِ اللهِ الأزَلِىّ؟ وَبِالتَالِى سَيَضْطَّرُ أيًّا مَن كَانَ مِنَ المُؤمِنِينَ أَنْ يُجِيبَ بِالنَفِىِ، وَهُنَا يَقُولُ المُخَالِفُ ظَانًّا أنَّهُ انْتَصَرَ لِمَذْهَبِهِ: إذًا فَنَحْنُ غَيْرُ أحْرَارٍ فِى أعْمَالِنَا. فَنَقُولُ لَهُ: قَدْ قَلَبْتَ المَسْألَةَ، وَلَيْسَ مِن مَصْلَحَتِكَ كَمَسْؤُول يَوْمَ القِيَامَةِ أنْ تَقُومَ بِهَذَا القَلْبِ، وَدَعَنِى أسْألُكَ أنَا:

لَوْ كَانَ هُنَاكَ عِلْمٌ بِالاِخْتِيَارِ بِطَرِيقَةٍ مَا، فَهَل يُسَمَّى عِلْمًا لَوْ لَم تَثْبُتَ نَتَائِجَهُ، وَتَتَطَابَقُ مَعَ الوَاقِعِ؟

وَلاَ يَسَعُ المُخَالِفَ إلاَّ القَوْلَ بِالتَطَابُقِ.

فَنَقُولُ لَهُ فَهَل تَغَيَّرَت صِفَةُ الاخْتِيَار؟ أم أنَّهُ لاَ يَزَالَ عِلْمًا بِالاِخْتِيَارِ؟

وَلاَ يَسَعُ المُخَالِفَ إلاَّ القَوْلَ بِبَقَاءِ الاخْتِيَار عَلَى مُسَمَّاهُ. فَنَقُولُ لَهُ بَقِىَ أنْ تُسَلِّمَ بِمَسْألَةِ العِلْمِ المُسْبَقِ، وَقَدْ أوْرَدَنا لَكَ مِنهَا العَشَرَاتِ، فَرَاجِعَهَا إن شِئتَ الاسْتِقَامَةِ.

إنَّ الَّذى يَنْوِى الزِنَا مَثَلاً، قَدْ انْعَقَدَتَ النِيَّةُ عَنْدَهُ، وصَادَفَ الشَرِيكَةَ الَّتِى انْعَقَدَتَ نِيَّتَهَا أيضًا، وَتَمَّ تَحْدِيدُ المَكَانِ والزَّمَانِ، ثُمَّ التَقَيَا، وَخَلعَا ثِيَابَهُمَا، ومَارَسَا الزِنَا بِأوْضَاعِهِ المُخْتَلِفَةَ، فَهَل يَقُولُ عَاقِلٌ بِأَنَّ ذَلِكَ حَدَثَ رَغْمًا عَنْهُمَا لأَنَّ اللهَ كَانَ يَعْلَم؟!

وَلَوْ قُلْنَا أنَّ عِصَابَةً مَا قَدْ قَامَت بالتَخْطِيطِ لِسَرِقَةِ بَنْكٍ مَا، فَقَامُوَا بِتَحْدِيدِ البَنْكِ، وَدَرَسُوهُ دِراسَةً مُسْتَفِيضَةً، وَجَهَّزُوا الأفْرَادَ، والسَيَاراتَ، وَالمُعْدَاتَ، وَاخْتاروا اليَوْمَ، والسَاعَة، وَرَسَمُوا الخِطَّةَ بِإحْكَامٍ حَتَّى أنَّهُم نَفَّذُوا خِطَتَهُم بِلاَ أخْطَاءِ، وَنَجَحُوا فِى سَرِقَة وَنَهْبِ البَنكِ، وَقَتْلِ البَعْضِ، دَونَ الوصُولِ إلَيْهِم. فَهَل يُقَالُ إلاَّ مِن مَعْتُوهٍ أنَّ عِلْمَ اللهِ هُوَ مَن أنْتَجَ كُلَّ هَذَا، لأَنَّهُ لاَيُمْكِنُ أنْ يَحْدُثَ شَيئًا بِخِلاَفِ العِلْمِ؟

إنَّ خُلاَصَةُ هَذِهِ النُقْطَةِ أنَّ العِلْمَ بِالاِخْتِيَارَاتِ لاَ يَعْنِى مُصَادَرَاتِهَا، وَإنَّمَا كُلٌّ مَسْؤول عَمَّا يَفْعَلَهُ بِكَامِلِ اخْتِيَارِهِ، بِيَدِهِ كَانَ المَنْعُ، وَبِيَدِهِ كَانَ الفِعْلُ، وَللهِ كَانَ العِلْمُ .

7 ـ الشُبْهَةُ الثانية: عِلْمُ اللهِ احْتِمَالِىّ:

قُلْنَا مِن قِبْل أَنَّ القَدَرَ تَخْطِيطٌ، وَأَنَّ القَدْرَ تَحْدِيدٌ، وَبِالتَالِى فَإنَّ العِلْمَ الشَامِلَ أضْحَى ضَرُورَةً لِكِلَيْهِمَا. وَلَوْ افْتَرَضْنَا أنَّ العِلْمَ احْتِمَالِىٌّ، لَمَا كَانَ هُنَاكَ مَعْنًى وَلاَ لُزُومًا لِلقَدَر والقَدْرِ المُتَرَتِّبَانِ عَلَى جُزْئِيَّةِ أعْمَالِ العِبَادِ. انْظُرُوا لِقَوْلِ الشَحْرُورِ (باخْتِصَارٍ غَيْرُ مُخْلٍ):

“فعلم الله في السلوك الإنساني الواعي يقسم إلى قسمين: 1- علم الله الكامل بكلية الاحتمالات التي يمكن أن يسلكها الإنسان، فأمام كل إنسان على حدة، ملايين الاحتمالات كل يوم، فلا يمكن لأي إنسان أن يقوم بأي عمل علني أو يخفي أي أمر أو يتبنى أية فكرة سرا أو علنا إلاوتصرفه داخل في هذه الاحتمالات وبالتالي فهو داخل في علم الله الكلي، ولا يفاجئ الله به ولا يدخل في كلية احتمالات علمه وهذه هي عين كمال المعرفة. فأبوبكر لم يفاجئ الله بإيمانه وأبو لهب لم يفاجئ الله بكفره، لأن الكفر والإيمان كليهما معا يدخل في علم الله. وفي هذا يصبح الخيار الإنساني الواعي خيارا حرا يستلزم الثواب والعقاب، وتصبح خيارات الإنسان غير مكتوبة عليه سلفا. وإذا قلنا الآن إن الله منذ الأزل علم أن أبا بكر سيؤمن وأن أبا جهل سيكفر فهذا عين نقصان المعرفة وليس كمالها. أي أن علم الله يحمل صفة الاحتمال الواحد. ولو كفر أبو بكر وآمن أبو جهل لكانت هذه مفاجأة كبيرة لله تعالى، علما بأن باب الكفر والإيمان كان مفتوحا أمام الاثنين على حد سواء” (2).

وَلنَقُم بِتَحْلِيلِ هَذِهِ الشُبْهَةِ الزَائِفَةِ:

7/1/37 ـ التَلاَعُب بِالأَلْفَاظِ لَيْسَ شِيمَةِ العُلَمَاءِ فَضْلاً عَن المُتَّقِين:

لَيْسَ مِن مَصْلَحَةِ البَاحِثِ عَنِ الحَقِّ فِى الدَارَينِ أنْ يَتَلاَعَبَ بِالأَلْفَاظِ، لاَ سِيَّمَا وَنَحْنُ نُنَاقِشُ أمْرًا خَطِيرًا مِثْلَ أمْرِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى. وَالأَجْدَرُ أنْ تَكُونَ كُلَّ ألْفَاظِنَا الَّتِى نَتَنَاوَلُ بِهَا المَوْضُوع مُنْضَبِطَةٌ، وَحَقٌّ، لاَ أنْ يَتَحَوَّلَ الأَمْرُ إلَى التَلاَعُبِ بِالأَلْفَاظِ، وَتَزْيِيفِ الحَقِّ. وَلِلأَسَفِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَا حَدَثَ مِن شَحْرُورِ، وَلِذَا سَمَيّتُهُ بِثَنْىِ العِطْفِ، وَلْنُبَيِّنَ بَعْضَ ذَلِكَ؛ إذْ يَقُولُ المَذْكُورُ كَمَا نَقَلْتَهُ أعْلاَهُ:

“فعلم الله في السلوك الإنساني الواعي يقسم إلى قسمين: 1- علم الله الكامل بكلية الاحتمالات التي يمكن أن يسلكها الإنسان”، إلَى أنْ يَقُولَ:

“أي لا يمكن لأي إنسان مهما عمل أن يقوم بعمل ما سرا أو علنا ويفاجئ الله به ولا يدخل في كلية احتمالات علمه وهذه هي عين كمال المعرفة”.

1 ـ فَأَوَّلُ التَلاَعُبِ بِالأَلْفَاظِ هُوَ تَسْمِيَتَهُ مَعْرِفَةَ الاحْتِمَالاَتِ بِالعِلْمِ:

وَلِنُقَرِّبَ المَسْألَةَ لِلأَذْهَانِ: فَلَوْ قُلْنَا أنَّ مُخْتَصَّ النَشْرَةِ الجَوِّيَةِ قَالَ إنَّهُ مِن المُحْتَمَلِ سُقُوطِ أمْطَارٍ غَدًا، فَيَكُونُ بِذَلِكَ عَلَى قَولِ شَحْرُورِ عَالِمٌ بِاحْتِمَالاَتِ الطَقْسِ غَدًا، ثُمَّ لِنَقُل إنَّهُ لَمْ تَسْقُط الأمْطَارُ فِى اليَوْمِ التَالِى، فَيَكُونُ المُخْتَصُّ لَمْ يَتَفَاجَأ، لِعِلْمِهِ بِكُلِّ الاحْتِمَالاَتِ. فَهَلْ تُسَمَّى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الاحْتِمَالاَتِ بِالعِلْمِ، وَيُصَوَّرُ عِلْمُ اللهِ بِأنَّهُ مِثْلَ عِلْمِ النَّاسِ: “مَعْرِفَةٌ لِلاحْتِمَالاَتِ”؟!!

أيْضًا فَيَجِبُ أنْ نُفَرِّقَ بَينَ العِلم وَبَينَ الاحتِمال، فَلَوّ قُلْنَا أنَّ مَا لَدَى اللهِ تَعَالَى هُوَ احْتِمال (كَمَا تُخُرِّصَ بِهِ شَحْرُور)، لَمَا كَانَ عِلْمًا، وَلَوّ قُلنَا حَتّى بِمَعْرِفَةِ كُلِّ الاحتِمَالاَتِ لَمَا كَانَ ـ أيضًا ـ عِلْمًا مِن قَريبٍ أو مِن بَعِيدٍ؛ إذ العِلمُ يَقْتَضى التَميّيزَ الدَقيقَ المُحَدَّدَ. وَمَعْرِفَةُ الاحْتِمَالاَتِ دُون العِلم بالتَحْدِيدِ يَتَعَارضُ أيضًا مَعَ قَولِ اللهِ عَن نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ:

ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـٰوَ‌ٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا ﴿١٢﴾الطلاق.

2 ـ أمَّا التَلاَعُب الثَانِى بِالأَلْفَاظِ فَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّ العِلْمَ بِكُلِّ الاحْتِمَالاَتِ هُوَ عَيْنُ كَمَالِ المَعْرِفَةِ.

فَلَوْ كَانَ كَلاَمُهُ حَقًّا فَمَاذَا يَكُونُ إذًا العِلْمُ بِمَا سَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ لاَ الاحْتِمَالِ؟! هَل سَيَكُونُ عَيْنُ عَيْنُ كَمَالِ كَمَالِ المَعْرِفَة؟

3 ـ أمَّا التَلاَعُب الثَالِثُ بِالأَلْفَاظِ فَهُوَ قَوْلُهُ أنَّهُ لَوْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَىَ بِحَقِيقَةِ الأحْدَاثِ الَّتِى سَتَحْدُث عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ فَهَذَا عَينُ نُقْصَانِ المَعْرفَةِ:

“وإذا قلنا الآن إن الله منذ الأزل علم أن أبا بكر سيؤمن وأن أبا جهل سيكفر فهذا عين نقصان المعرفة وليس كمالها”.

فَهَل يَقُولُ بِذَلِكَ عَاقِلٌ؟!

4 ـ أمَّا التَلاَعُب الرَابِعُ بِالأَلْفَاظِ، وَالَّذِى يَرْقَى لِلتَضْلِيلِ المُتَعَمَّدِ فَهُوَ قَوْلُهُ أنَّ اللهَ (وَحَاشَاهُ) قَدْ يُفَاجَأُ بأحْدَاثٍ مُخَالِفَةً لِمَا عَلِمَهُ حَالَ كَانَ عِلْمُهُ ذُو احْتِمَالٍ وَاحِدٍ (عَلَى وَجْهِ التَّحْدِيِدِ):

“أي أن علم الله يحمل صفة الاحتمال الواحد. ولو كفر أبو بكر وآمن أبو جهل لكانت هذه مفاجأة كبيرة لله تعالى، علما بأن باب الكفر والإيمان كان مفتوحا أمام الاثنين على حد سواء”.

كُلُّ هَذَا الجَهْلِ الشَنِيعِ احْتَوَتْهُ سُطُور الشَحْرُورِ، وَأكْثَرُ مِنْهَا، حَتَّى أَنَّهُ خَلَطَ بَينَ العِلْم، وَبَيْنَ المَعْرفَةِ، وَتَكَلَّمَ عَنْهُمَا وَكَأنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، مَعْ أنَّ المَعْرِفةَ لَيْسَت العِلْم، فَالعِلْمُ أشْمَلُ وَأكْمَلُ، وَلَيْسَ بَعْدَ العِلمِ شَيْءٌ. وَالمَعْرِفَةُ كَالطَريق يَنْتَهِي بالعِلْمِ. وَالإنْسَانُ قَدْ يَعْرِفُ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْلَمَ بِحَسَبِ قُدْرَاتِهِ المَمْنُوحَةِ. وَاللهُ تَعَالَي تَنْتَفِي عَنْهُ المَعْرِفَةُ وَلِذَا فَلَيْسَ مِن اسْمَائِهِ “العَارِفُ”؛ وَذَاكَ لأنَّهُ عَلِيمٌ، فَمُنْتَهَى العِلْمُ إلَيْهِ، وَلاَ يَتَنَاسَبُ مَعَ العَلِيم أَنْ يُقَالُ عَنْهُ “العَارِفُ” لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَقْلِيلِ وَالتَدَنِّي، وَحَاشَاهُ تَعَالَي.

وَعِنْدَما يقولُ اللهُ تعالي: “وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴿٦﴾محمد، فَلاَ يَعْنِى ذَلِكَ أنَّهُم يَعْلَمُونَهَا، وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَهَا فَقَط.

بَل إنَّ شَحْرُورَ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِأنَّ صِيَاغَةُ الكَلاَم كَانَت هِىَ الأُخْرَى مَعِيبَةٌ؛ إذ كَيْفَ يُمْكِنُ الجَمعَ بَيْنَ عِلْمِ اللهِ بِشَيءٍ، وَبَيْنَ حُدُوثِ عَكْسِهِ؟

إذ لَوْ صَحَّ العِلمُ لاَنْتَفَى حُدُوثُ العَكْسِ، وَلَوْ حَدَثَ العَكْسُ لاَنْتَفَى العِلمُ، وَلاَ يَمْكِنُ الجَمْع بَينِهِمَا بِحَالٍ.

7/2/38 ـ سَخَافَةُ وَعَبَثِيِّةُ القَوْلِ بِالعِلْمِ الاحْتِمَالِىّ:

إذَا كَانَ كُلُّ إنْسَانٍ (عَلَى قَوْلِ شَحْرُور) لَهُ وَحْدَهُ مَلايِين الاحْتِمَالاَتِ، لِيَخْتَارَ مِنْهَا القَلِيلَ، وَكَانَ النَّاسُ بِالمِلْيَارَاتِ، فَهَذَا يَعْنِى أنَّ اللهَ تَعَالَى (وَحَاشَاه) يَظَلُّ يَضَعُ تِريلْيُونَاتِ، تِريلْيُونَاتِ، تِريلْيُونَاتِ، تِريلْيُونَاتِ، تِريلْيُونَاتِ، تِريلْيُونَاتِ (الخ) الاحْتِمَالاَتِ دُونَ طَائِلٍ، وَذَاكَ لأَنَّهُ يَجْهَلُ (وَحَاشَاه) مَا سَيَعْمَلَهُ النَّاسُ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، لِكَوْنِ الزَمَنِ عَائِقٌ لَهُ. . . تَخَيَّلُوا!!

وَلْنَضْرِبُ مَثَلاً يُبَيِّنُ كَيْفَ يَتَكَلَّمُ هَؤلاَءِ بِمَا لاَ يَعْرِفُونَ ولاَ يَحْسَبُونَ لَهُ حِسَابًا، وَكَأنَّهُم حَدِيثُوا عَهْدٍ بالدُنْيَا فَضْلاً عَنِ القُرْءَانِ. فَقَدْ ضًرَبْنَا مَثَلاً مِن قَبْلِ بِمَسْأَلَةِ إغْرَاقِ قَوْمِ نُوحٍ؛ إذ إنَّ عِلْمَ اللهِ المُحِيطَ كَانَ فِيِهِ أنَّه لاَ أحَد مِن قَوْمِهِ سَيُؤْمِنُ بَعْدَ الوُصُولِ لِلَحْظَةٍ بِعَيْنِهَا، وَهَذَا العِلْمُ ـ كَمَا عَلِمْنَا هُنَاكَ ـ كَانَ سَابِقًا لِلحُدُوثِ، وَبِالتَالِى فَقَدْ قَدَّرَ اللهُ تَعَالَى الإِهْلاَكَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ مُنْذُ القِدَم، لِقِدَمِ العِلْمِ أيْضًا، وَلِذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى إنَّ المَاءَ قَدْ التَقَى عَلَى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ:

فَفَتَحْنَآ أَبْوَ‌ٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٍۢ مُّنْهَمِرٍۢ ﴿١١﴾ وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًۭا فَٱلْتَقَى ٱلْمَآءُ عَلَىٰٓ أَمْرٍۢ قَدْ قُدِرَ ﴿١٢﴾القمر.

أمَّا عِنْدَ شَحْرُورِ فَالعِلْمَ احْتِمَالِىٌّ كَمَا يَقُولُ، وَبِالتَالِى فَإِنَّ أَمْرَ الإغْرَاقِ عِنْدَ شَحْرُور ـ عَلَى جَسَامَتِهِ وَعِظَمِهِ وَتَعْقِيِدِ حَسَابَاتِهِ ـ، “قَدْ قُدِرَ”، أَىّ قَدْ قُدِّرَ وَخُطِّطَ لَهُ، ضِمنَ تِرِيلْيُونَات الأقْدَارِ وَالتَخْطِيطَاتِ المُعَطَّلَةِ، الَّتِى تُحْسَبُ، فَقَط لِتَغْطَيَةِ الاحْتِمَالاَتِ فِى حَالَةِ حُدُوثِ أىٍّ مِنْهَا، وَالَّتِى لَنْ يُنَفَّذَ مِنْهَا شَيءٌ عَلَى الإطْلاَقِ، إذَا مَا وَقَعَ الاحْتِيَارُ عَلَى احْتِمَالٍ مُغَايِرٍ، وَهَذَا مَا يَقُولُ بِهِ شَحْرُورُ وَهُوَ يَحْسَبُ نَفْسَهُ عَلَى شَيْءٍ. وَهُوَ تَخَيُّلٍ عَبَثِىّ، لاَ يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، إذْ إنَّ ذَلِكَ يَعْنِى أنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ فِى مَسْألَةِ الإغْرَاقِ مِن حِسَابٍ لِلماءِ، وَكِمِّيَّتِهِ المَطْلُوبَةِ لإِحْدَاثِ الإِغْرَاقِ، وَمَصَادِرَهُ، وَمَتَىَ تَبْدَأ، وَمَتَىَ تَكُفُّ، . . الخ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ قَدَرًا مَقْدُورًا كَإحْتِيَاطِىّ لِفِعْلِ قَوْمِ نُوحٍ، وَكَانَ مِنَ المُمْكِنِ ألاَّ يَحْدُثَ لَوْ وَقَعَ احْتِمَالُ إيمَانِ قَومُ نُوحٍ!! ولِنُطَالِعُ هَذِهِ التَفَاصِيلِ مِن سُورَةِ هُودٍ:

وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ ءَامَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا۟ يَفْعَلُونَ ﴿٣٦﴾ وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ﴿٣٧﴾ وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌۭ مِّن قَوْمِهِۦ سَخِرُوا۟ مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا۟ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴿٣٨﴾ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌۭ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌۭ مُّقِيمٌ ﴿٣٩﴾ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّۢ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ ۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٌۭ ﴿٤٠﴾ ۞ وَقَالَ ٱرْكَبُوا۟ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْر۪ىٰهَا وَمُرْسَىٰهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿٤١﴾ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍۢ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُۥ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍۢ يَـٰبُنَىَّ ٱرْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلْكَـٰفِرِينَ ﴿٤٢﴾ قَالَ سَـَٔاوِىٓ إِلَىٰ جَبَلٍۢ يَعْصِمُنِى مِنَ ٱلْمَآءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ ﴿٤٣﴾ وَقِيلَ يَـٰٓأَرْضُ ٱبْلَعِى مَآءَكِ وَيَـٰسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِىَ ٱلْأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِىِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًۭا لِّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿٤٤﴾“.

لَسْتُ بِحَاجَةٍ لِلتَعْلِيقِ عَلَى الأَيَاتِ، فَهِىَ تُوَضِّحُ مَا فِيهَا بِنَفْسِهَا، ولَكِن مَا يَهُمُّنى هُنَا، بِخِلاَفِ عِلْمِ اللهِ المُسْبَقِ بِأَعمَالِ قَوْمِ نُوحٍ، وَأَنَّهُم لَنْ يُؤْمِنُوا، هُوَ جَسَامَةُ العِقَابِ، وَتَوْظِيفِ السَمَاءِ وَالأرْضِ، لِيَخْرُجَ المَاءَ مِنْهُمَا، وَيَلْتَقِى مَعًا، لِيُقْضَى الأَمْرُ المُعَدُّ لَهُ سَلَفًا. وَبِالتَالِى فَإنَّهُ مِنَ المُحَالِ أنْ يَقُولَ عَاقِلٌ بِأَنَّ كُلَّ هَذَا القَدَر (التَخْطِيط) لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَوْضُوعِ الإغْرَاقِ، هُوَ أحَد دِشِلْيُونَاتِ الأقْدَارِ المُقَدَّرَةِ لِكَىْ لاَ تَحْدُث، وَإِنَّمَا عَلَى سَبِيلِ الاحْتِيَاطِ، إذْ إنَّ سَخَافَةِ الفِكْرَةِ لَيْسَ لَهَا نَصٌّ وَاحِدٌ يُؤَيِّدُهَا، أو عَقْلٌ يُعَضِدُهَا.

7/3/39 ـ فَسَادُ الاسْتِدْلاَلِ، وَإسَاءَةُ تَنَاولِ الأَدِلَّةِ:

بَرَعَ الأُسْتَاذُ شَحْرُورُ فِى فَسَادُ الاسْتِدْلاَلِ وَإسَاءَةُ تَنَاولِ الأَدِلَّةِ. انْظُر لِسَعَةِ الجَهْلِ فِى هَذِهِ الفَقْرَةِ فَقَط:

“علم الله الكامل بأحداث مسبقة بكلياتها وجزئياتها أو بأحداث جارية بكلياتها وجزئياتها: وذلك أنه في لحظة أن نوى أبو بكر الإيمان قبل أن يفضي بهذه النية لأحد وهي مازالت سرا في نفسه علمها الله أولا وفي نفس اللحظة التي نوى فيها أبو بكر الإيمان”.

1 ـ فَقَدْ خَلَطَ شَحْرُورُ مَا بَيْنَ العَمَلِ وَبَيْنَ النِيَّةِ، فَعَنْوَنَ بِالأحْدَاثِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنِ النِيَّةِ.

2 ـ تَكَلَّمَ بالفَقْرَةِ عَن عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ لَم يُثْبِتُ لَهَ إلاَّ العِلْمِ بالنِيَّاتِ.

3 ـ رَتَّبَ شَحْرُورُ المَسْألَةَ كَالتَالِى:

ـ نَوىَ أبُو بَكْر الإيمَان: (لحظة أن نوى أبو بكر الإيمان).

ـ أصْبَحَت نِيَّةُ أَبى بَكْرٍ سِرًّا فِى نَفْسِهِ: (وهي مازالت سرا في نفسه).

ـ لَم يَعْلَم أبُو بَكر بِمَا انْتَوَاهُ هُوَ شَخْصِيًّا لَحْظَةَ انْتَوَى، حَيثُ عِلْمَ اللهُ نِيَّتَهُ أوَّلاً: (علمها الله أولا).

فَهَل يَنْوى أحدٌ إلاَّ إذَا كَانَ مَا سَيَنْوِيِهُ مَعْلُومًا لَدَيْهِ لَحْظَةَ قَرَّرَ؟!

وَهَل يَكُونَ أحَدٌ عَلَى جَهْلٍ بِمَا انْتَوَاهُ هُوَ شَخْصِيًّا بَعْدَ مَا انْتَوَاهُ؟

4 ـ وَحَتَّى صِيَاغَةِ كَلاَمِهِ الخَطَأ جَاءَت هِىَ أيْضًا خَطَأ، فَتَكَلَّمَ عَن الأحْدَاثِ المُسْبَقَةِ (أى المَاضِيَةِ) بَيْنَمَا هُوَ يُرِيدُ الكَلاَم عَن الأحْدَاثِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ.

5 ـ وَقَوْلُهُ: “علم الله الكامل“، يُوحِى خَطَأ بِأنَّ هُنَاكَ غَيْرُهُ نَاقِصٌ، إذْ إنَّ عِلمَ اللهِ تَعَالَى كُلُّهُ كَامِل.

6 ـ وَكَيْفَ يَقُولُ بِعْلْمِ اللهِ الكامِلِ، وَهُوَ الَّذِى يَنْفِى عَن اللهِ العِلْمَ بِمَا سَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ قَبْلَ حُدُوثِهِ؟!

7 ـ إنَّ مَا سَمَّاهُ بِعِلْمِ اللهِ الكامِلِ، تَوَقَّفَ عِنْدَ النِيَّةِ، وَظَلَّ اللهُ عِنْدَ شَحْرُورِ جَاهِلاً (وَحَاشَاهُ) بَمَا سَيَعْمَلُهُ أبُو بَكْرٍ فِيمَا بَعْد!!

وَخُلاَصَةُ هَذِهِ النُقْطَةِ أنَّ عِلْمَ اللهِ لاَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عِلْمٌ بِالاِحْتِمَالاَتِ، وَانَّ اسْتِدْلاَلاتِ شَحْرُورِ كَانَت عِبَارَة عَن خَلِيطٍ مِنَ الأخْطَاءِ وَسُوءِ الاسْتِدلاَلِ، والتَلاَعُبِ بِالألفَاظِ، وَحَسْبُ ذَلِكَ أن يَشْرَحَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ.

8 ـ الشُبْهَةُ الثَالِثَةُ: عِلْمُ اللهِ إحْصَائِىٌّ:

سَنُلاَحِظُ هُنَا (كَمَا لاَحَظْنَا فِى كَلاَمِ شَحْرُورِ عَنْ عِلْمِ اللهِ عُمُومًا) أَنَّ شَحْرُورَ ـ عَلَى أحْسَنِ الأَحْوَالِ، وَبِتَحْسِينِ الظَّنِ ـ يَقُولُ مَا لاَ يَفْهَمَهُ فِى هَذِهِ المَسْألَةِ الخَاصَّةِ بِعِلْمِ اللهِ، وَقَدْ كَانَ مِن ذَلِكَ وَصْفُهُ لِعْلْمِ اللهِ، وَعَلْمُ اللهِ لاَيُوصَفُ، وَإنَّمَا سُلُوكُ المُتَّقِينَ فِيهِ أنْ يَتَوَقَّفُوا عِنْدَ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَفَقَط. وَأيضًا فَقَدْ وَصَفَهُ مِن عِنْدِيَّاتِهِ. وَأخِيرًا فَقَدْ وَصَفَهُ خَطَأً.

8/1/40 ـ فَسَادُ فَهْمِ شَحْرُورِ لِلعِلْمِ الإحْصَائِىّ:

يَقُولُ شَحْرُورُ: “وعلم الله هو أعلى أنواع علوم التجريد، وأعلى أنواع علوم التجريد هو الرياضيات لذا قال (وأحصى كل شيء عدداً) (الجن 28) أي أن علم الله بالموجودات هو علم كمي بحت. فالإحصاء هو التعقل، والعدد هو حال الإحصاء”.

ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَهَا: “وإذا أردنا أن نعرف علم الله في الأشياء فهو علم رياضي بحت، أي في علم الله لا يوجد أصفر فاتح وأصفر غامق، وتفاحة كبيرة وتفاحة صغيرة، ولكنها في علمه كلها علاقات رياضية عددية بحتة”.

فَأَوَّل شَيءٍ يُلْفتُ النَّظَرَ فِى كَلاَمِ شَحْرُورِ السَابِقِ هُوَ: مِن أينَ لَهُ بِهَذَا العِلْمِ، حَتَّى يَتَجَرَّأ وَيَصْدَعَ بِهِ؟

هَل يُنَبَّؤُاْ الرَجُلُ بِمَا لاَ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ يَنْطِقُ بِهِ، أم لَهُ كِتَابٌ مَنَزَّلٌ خَاصٌّ لَم يَصِلْنَا؟!!

هَل قَالَ اللهُ لَهُ (مَثَلاً): إنَّ عِلْمِى رِيَاضِىٌ عَدَدِىٌّ بَحْتٌ، وَفَقَط؟!

وَمِن أينَ لَهُ أنَّ عِلْمَ اللهِ لَيْسَ فِيهِ أَصْفَرٌ فَاتِحٌ، وَأَصْفَرٌ غَامِقٌ، وَتُفْاحَةٌ كَبيرَةٌ، وَتُفْاحَةٌ صَغِيرَةٌ؟! . . مَا هَذَا الكَلاَم الفَارغ؟!!

ءَآللهُ تَعَالَى يَقَفُ عِلْمَهُ عِنْدَ الكِمِّيَاتِ فَقَط، وَيَقْصُرُ عَن النَوعِيَاتِ، فَيَصِيرُ كَمًّا بِلاَ صِفَاتٍ، لَيْسَ فِيهِ كَبيرٌ، أوْ صَغِيرٌ، أوْ ألْوَانٌ، أوْ غَيْرُهُ؟!

سُبْحَانَك؛ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيم!

يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:

.. لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا ﴿١٢﴾الطلاق.

لِيُبَيِّنُ أنَّهُ يُحِيطُ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، ثُمَّ يَزيِدُ النَّاسَ بَيَانًا أنَّ عِلْمَهُ لَيسَ عِلْمًا بِالحَدَثِ فَقَطْ، وَإنَّمَا تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى العِلْمِ بِكُلِّ مَا يَخُصّ الأَحْدَاثِ مِن تَفَاصِيلٍ (بِكُلِّ شَيْءٍ) مَهْمَا بَلَغَت دِقَّتِهَا، عَلَى سَبِيِلِ الإِحْصَاءِ، وَالعَدِّ، فَلا تَغِيبُ عَنْهُ غَائِبَةٌ. فَاغْتَرّ البَعْضُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ دِرَاسَتِهِم لأيَاتِ الكِتَابِ المُحْتَشِدَةِ فِى بَيَانِ عِلْمِهِ، وَقَالُوا مَقُولَتِهِم الجَاهِلةِ بأَنَّ عِلمَ اللهِ إحْصَائِىٌّ، وَكَمِّىٌّ، وَلَيْسَ فِيِهِ ألْوَانٌ، وَلاَ أحْجَامٍ . . الخ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُبَرْهِنُ بِشَيْءٍ عَلَىَ مَا قَالَهُ.

8/2/41 ـ الإحْصَاءُ فِى القُرْءَانِ يُحِيطُ بِالمُحْصَى:

الإحْصَاءُ فِى القُرْءَانِ يَعْنِى أتَمُّ أشْكَالِ الحَصْرِ وَالوَصْفِ، وَبِالتَالِى فَإِذَا مَا قِيلَ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْنِى أنَّ مَا تَمَّ إحْصَاءُه لاَ يَخْفَى مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى الإِطْلاَقِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِى كِتَابِهِ الكَرِيم:

وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَـٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةًۭ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا ۚ وَوَجَدُوا۟ مَا عَمِلُوا۟ حَاضِرًۭا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًۭا ﴿٤٩﴾الكهف.

فَنَجِدُ أنَّ الإحْصَاءَ هُنَا مُسْتَوْدَعٌ فِى كِتَابٍ، وَالإحْصَاءُ حَصَرَ الأَحْدَاثُ كَمَا حَدَثَت بِالتَمَامِ وَالكَمَالِ، حَتَّى أنَّ مَا عَمَلُوهُ وَجَدُوهُ حَاضِرًا، وَمِنَ البَدِيهِى أنْ مَا هُوَ حَاضِرٌ حَاضِرٌ بِلَوْنِهِ وَحَجْمِهِ، وَجَمِيعُ تَفَاصِيلِهِ.

وَعِنْدَمَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: “وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا“، فَإنَّ اللونَ، وَالحَجْمَ، وَمَا شَابَهَ دَاخِلٌ فِى ” وَكُلَّ شَيْءٍ”، فَأن يَأتِى شَحْرُورٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقُولَ:

“علم الله في الأشياء هو علم رياضي بحت، أي في علم الله لا يوجد أصفر فاتح وأصفر غامق، وتفاحة كبيرة وتفاحة صغيرة، ولكنها في علمه كلها علاقات رياضية عددية بحتة”.

هُوَ تَغَافُلٌ مِنْهُ، وَجَهْلٌ بِأَيَاتِ الكِتَابِ الكَرِيمِ.

وَعِنْدَمَا يَقُولُ العَلِىُّ: “إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضِ إِلَّآ ءَاتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْدًۭا ﴿٩٣﴾ لَّقَدْ أَحْصَىٰهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّۭا ﴿٩٤﴾مريم.

نَجِدُ أنَّ هُنَاكَ فِعْلُ إحْصَاءٍ، وَفِعْلُ عَدٍّ، وَبِالتَالِى فَلاَ يَصِحُّ هُنَا أيْضًا أنْ يُقَالَ بِأنَّ الإحْصَاءَ كَانَ عَدَدِيًّا، بَل إنَّ الإحْصَاءَ هُنَا يَعْنِى الحَصْرُ الشَامِلِ والكَامِلِ لِكُلِّ تَفَاصِيلِ الجَمِيعِ (3) بِكَامِلِ عَدَدِهِم، وَكَيْفِيَّاتِهِم. وَيُلاَحِظُ الذَكِىُّ هُنَا أنَّ الأَيَاتِ لاَ تَتَحَدَّثُ عَن الأعْمَالِ، وَإنَّمَا عَن الاسْتِيفَاءِ لِلجَمِيعِ، وَبِالتَالِى فَنَحْنُ نَأخُذُ مِنْهَا فَقَطْ مَعْنَى الإحْصَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ إحْصَاءٌ عَدَدِىٌّ كَمَا يَزْعُمُ الشَحْرُورُ.

وَعِنْدَمَا يَقُولُ تَعَالَىَ عَنْ رُسُلِهِ:

لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا۟ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًۢا ﴿٢٨﴾الجن.

فَإِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًۢا“، هُوَ أحْدُ وُجُوهِ الإحْصَاءِ الَّذِى ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ كُلَّهُ، كَمَا تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ عَرْضُهُ أعْلاَهُ، فَهَل مِن المَسْلَكِ العِلْمِىِّ أنْ يأتِىَ شَحْرُور أو غَيْرُهُ عَلَى قَول اللهِ تَعَالَى: “..وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًۢا“، لِيَقْتَطِعَ مِنهُ الإحْصَاءَ العَدَدِىَّ مِنْهُ، فَيَجْعَلُهُ هُوَ كُلِّ الإحْصَاءِ الرَبَّانِىّ، وَمُنْتَهَى عِلْمُ اللهِ، وَيُغْفِلُ لَفْظَ “الإحَاطَةِ” بِمَعْنَاه الشُمُولِىِّ، وَيُغْفِلُ التَركِيبَ الكَامِلَ لِلأَيَةِ، وُيَتَجَاهَل عَشَرَات الأَيَاتِ (الَّتِى سُقْنَا الكَثِيرَ مِنْهَا) النَّاصَّةِ عَلَى إحَاطَةِ وَشُمُول عِلْمِ اللهِ لِكُلِّ شَيءٍ، لِيَسْتَخْرجَ مِنْهُ هَذَا الهُرَاء الَّذِى قِيل؟ انظُرُوا لِقَوْلِهِ:

“إننا نميز عدة أنواع من الإحصاء وهو أن نعقل الشيء ككل وذلك ما بأن نعرض صورة له ونرسمه وهذا ما نفعله الآن عندما نريد أن نعقل خلية فنضعها تحت المجهر ونرسمها “إحصاء كيفي” وإما أن نعقل الشيء عن طريق الوصف اللغوي كأن نصف شخصا وصفا عن طريق التعبيرات اللغوية بحيث أن المستمع يأخذ صورة كاملة عنا لشخص الموصوف “إحصاء لغوي” أما النوع الثالث من الإحصاء فهو الإحصاء العددي، أي الإحصاء عن طريق الكم أي أننا نأخذ صورة كاملة عن الكم المتصل “الإحصاء” بواسطة الكم المنفصل “العدد”. لذا قال عن إحصاء الله للأشياء بأنه إحصاء عددي لا إحصاء لغوي أي أن علم الله للأشياء كما قلت علم رياضي تجريدي بحت”.

وَالخُلاَصَةُ أنَّ عِلْمَ اللهِ بِالأَشْيَاءِ لَيْسَ كَمَا قِيِلَ “عَدَدِىٌّ رِيَاضِىٌّ”، وَإنَّمَا هُوَ عِلْمٌ كَامِلٌ، شَامِلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، بِمَا فِى ذَلِكَ الألْوانَ وَالأحْجَامَ، والمُكَوِّنَاتُ الأَوَّلِيَّةُ، وَالأشْكَالُ، . . الخ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:

وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ كِتَـٰبًۭا ﴿٢٩﴾النبأ.

فَسُبْحَانَ مَن أحْصَى كُلَّ شَيْءٍ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهِ، وَاسْتَوْدَعَهُ كِتَابًا.

9 ـ الشُبْهَةُ الرَابِعَةُ: كِتَابَةُ الأَعْمَالِ:

لاَ يُفَرِّقُ شَحْرُورُ بَينَ العِلْمِ وَبَينَ تَسْجِيلِ الأعْمَالِ، وَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ العِلْمِ بِمَا سَيَحْدُث، وبَيْنَ العِلم بالوَاقِعِ؛ يَقُولُ شَحْرُورُ:

“أن من يستقم فإنه لا يفاجئ الله باستقامته، ومن ينحرف لا يفاجئ الله بانحرافه. وفي هذا يصبح الخيار الإنساني الواعي خيارا حرا يستلزم الثواب والعقاب، وتصبح خيارات الإنسان غير مكتوبة عليه سلفا”.

9/1/42 ـ كِتَابَةُ الأعْمَالِ بِمَنْأى عَنِ العِلْمِ:

مِنَ البَدِيهِيّ أنَّ أعْمَالَ النَّاسِ غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ قَبْل وُقُوعِهَا، إذ كَيْفَ سَتُكْتَبُ عَلَى أنَّهَا حَدَثَت، وَهِىَ لَمْ تَحْدُثُ بَعْد؟! هَذَا أمْرٌ لاَ يَحْتَاجُ ذَكَاءً!

وَبَعْدَ اسْتِعْرَاضِ كُلِّ مَا سَبَقَ فِى الصَفَحَاتِ السَابِقَةِ فَقَدْ تَأكَّدْنَا:

أنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى المُجَرَّدَ سَابِقٌ لِلخَلْقِ (أَزَلِيٌّ).

وَأنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ كُلِّ نَفْسٍ مِنْ قَبْلِ خَلْقِهَا، وَلَكِنَّهُ عِلْمٌ بِلاَ تَحَقُقٍ “كونيٍّ” بَعْدُ أَوْ أَحْدَاثٍ.

كَمَا أنَّهُ يَعْلَمُ مَا سَتَكْسَبُهُ كُلُّ نَفْسٍ قَبْلَ تَحَقُّقِهِ، وَتَحْتَ أَيَّ ظُرُوفٍ، وَلَكِنَّهُ عِلْمٌ لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ تَعَالَى سَبِيلاً لِتَمْييزِ النَّاسِ وَحِسَابِهِم.

وَعِنْدَمَا يَحْدُثُ هَذَا التَحَقُّق “الكَوْنِيّ” يَحْدُثُ العِلْمُ الوَاقِعِىُّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ التَسْجِيل وَالتَمْييز.

فاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أفْعَالَ العِبَادِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَكْتُبْهَا عَلَيِّهِم بعِلْمِهِ، حَتَّى تَقَعُ مِنْهُم، وَبِالتَالِى فَإنَّ مَا سَمَّاهُ الشَحْرُورُ بِالخِيَارِ الإِنْسَانِيِ الْوَاعِي سَيَظَلُّ خِيَارًا حُرًّا، وَسَتَظَلُّ خِيَارَاتُ الإِنْسَانِ غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ عَلَيِّهِ سَلَفًا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلِ العَلِيّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌۭ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا۟ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّۢ وَنَقُولُ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ﴿١٨١﴾ءال عمران.

أَفَرَءَيْتَ ٱلَّذِى كَفَرَ بِـَٔايَـٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًۭا وَوَلَدًا ﴿٧٧﴾ أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْدًۭا ﴿٧٨﴾ كَلَّا ۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدًّۭا ﴿٧٩﴾مريم.

أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَىٰهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴿٨٠﴾الزخرف .

وَهُنَا نَجِدُ العَدْلَ المُرْتَبِطَ بِالحُرِّيَةِ، فَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُؤَثِّرُ عِلْمهُ فِي شَيْءٍ مِن حُريِّةِ العَبْدِ، وَلَمْ يُسَجِّلُ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى قَامَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الاخْتِيَارِ وَالتَحَقُقِ، وَلَمْ يُطْلِعُ اللهُ تَعَالَى عَلَى غَيْبِهِ هَذَا أحَدًا.

9/2/43 ـ جَحدُ الإنْسَان لأعْمَالِهِ:

بِرَغْمِ أنَّ الإنْسَانَ قَدْ وُجِدَ فِى الدُنْيَا، واكْتَسَبَ مَا كَسَبَت يَدَاهُ، إلاَّ أنَّ مِنْهُ مَنْ يَجْحَدُ مَا عَمِلَهُ؛ يَقُولُ تَعَالَى:

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًۭا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوٓا۟ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿٢٢﴾ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّآ أَن قَالُوا۟ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴿٢٣﴾ ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا۟ يَفْتَرُونَ ﴿٢٤﴾الأنعام.

فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ حَالُ بَعْضِ الإنْسَانِ، وَهُوَ قَدْ خُلِقَ، وَتُرِكَ حُرًّا، وَاخْتَارَ أنْ يُشْرِكَ، ثُمَّ هَا هُوَ يُنْكِرُ، وَيَحْلِفُ أنَّهُ لَمْ يُشْرِكَ يَومًا، فَكَيْفَ كَانَ سَيَكُونُ الحَالُ لَوْ أنَّ اللهَ حَاكَمَ النَّاسَ بِعِلْمِهِ بِاخْتِيَارَاتِهِم فَقَطْ، بِدُونِ إيجَادِهِم فِى الواقِعِ؟

إذًا فَإيجَادُ النَّاسِ فِى هَذِهِ الدُنْيَا هُوَ ضَرُورَةٌ لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِم، وَكِتَابَةُ الأعْمَالِ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا هِىَ أيْضًا ضَرُورَةٌ لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى إِنَّ اللهَ يُوَاجِهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَفَائِحِهِم، وبِجَوَارِحِهِم:

ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰٓ أَفْوَ‌ٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ ﴿٦٥﴾يس.

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿١٩﴾ حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿٢٠﴾ وَقَالُوا۟ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوٓا۟ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِىٓ أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍۢ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٢١﴾ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَآ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًۭا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٢٢﴾ وَذَ‌ٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ ﴿٢٣﴾فصلت.

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿٢٤﴾ يَوْمَئِذٍۢ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ ﴿٢٥﴾النور.

إذًا فَالعِلْمُ المُجَرَّدُ لاَ يَنْفَعُ وَحْدَهُ مَعَ النَّاسِ، وَحَتَّى كِتَابَةُ الأعْمَالِ لاَ تَنْفَعُ أيْضًا مَعَ بَعْضِ النَّاسِ، وَمِن هُنَا نَفْهَمُ جَيْدًا أنَّ عِلْمَ اللهِ الأزَلِىّ لَمْ يَتَدَخَّلَ فِى خِيَارَاتِ النَّاسِ، وَأَنَّ النَّاسَ تَعْلَمُ يَقِينًا أنَّ أعْمَالَهُم وَقَعَت بِاخْتِيَارِهِم، وَقَرَارَاتِهِم، وَلِذَا قَالُوا لِجَوَارِحِهِم: لِمَ شَهِدتُم عَلَيْنَا؟ وَلَمْ يَقُل أحَدٌ مِنْهُم للهِ (مَثَلاً) أنْتَ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّنَا كُنَّا سَنَعْمَلُ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ فَلِمَ تَرَكْتَنَا نَعْمَلُهَا، أوْ أنَّهُ كَانَ لُزُومًا أنْ نَعْمَلَ مَا عَلِمْتَهُ، إذْ إنَّهُم يَعْلَمُونَ القِصَّةَ كَامِلَةً، وَيَعْلَمُونَ أنَّهُم اخْتَارُوا قَبْلاً أنْ يَحْمِلُوا الأمَانَةَ، وَيَعْلَمُونَ أنَ الاخْتِيَارَ فِى الدُنْيَا كَانَ لَهُم، وَأَنَّ اللهَ أشْهَدَهُم عَلَى أنْفُسِهِم، وَبِالتَالِى فَهُم يَعْلَمُونَ أنَّ العِلْمَ كَانَ لِلاخْتِيَارِ الوَاقِعِ مِنْهُم، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ شَهَادَةِ جَوَارِحِهِم، وَظُهُورِ حُرِّيَةِ اخْتِيَارِهِم: “..وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ“!

9/3/44 ـ إحْبَاطُ الأعْمَالِ وَعَدَم النَظَرِ إلَيْهَا:

طَنْطَنَ شَحْرُورُ بِأَنَّ تَحَقُّقِ العَدْلِ يَقْتَضِى جَهْلِ اللهِ بِمَا سَيَعْمَلُهُ العِبَادُ، وَبِالتَالِى يَبْدَأ تَسْجِيلِ الأعْمَالِ دُونَ سَبْقِ عِلْمٍ إلاَهِىٍّ، وَبِذَلِكَ فَقَدْ أعْطَى لِنَفْسِهِ مَرْتَبَةِ تَحْدِيدِ مَعَايِيرِ العَدْلِ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَدَلاً مِن أنْ يَتْرُكَ لِكِتَابِ اللهِ أنْ يُعَلِّمَهُ بِالمَعَايِيرِ الحَقِّ!!!

حَسَنًا؛ فَمُنْتَهَى العَدْلِ عِنْدَهُ هُوَ أنْ تُسَجَّلُ الأعْمَالُ لِحِينَ الحِسَابِ. وَبِالتَالِى فَإنَّ التَسْجِيلَ الحُرَّ هُوَ سَبِيلُ تَحْقِيقِ العَدْلِ، وَلَكِن إذَا مَا رَجِعْنَا إلَى القُرْءَانِ فَسَنَجِدُ أنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ لَنْ يُؤبَهُ لِكُتُبِهِم، وَلَنْ تُنَاقَشُ أعْمَالهُم، وسَيُؤخَذُونَ فَوْرًا إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ المَصِيرِ، دُونَ مِيزَانٍ أوْ شَفَاعَةُ عَمَلٍ، فَأيْنَ مِعْيَارِ العَدْلِ الَّذِى بِسَبَبِهِ وَسَمَ شَحْرُورُ وَأشْبَاهِهِ اللهَ بِالجَهْلِ بِمَا سَيَعْمَلُهُ العِبَادُ مُسْتَقْبَلاً؟! . . يَقُولُ تَعَالَى:

..أُو۟لَـٰٓئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا۟ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَ‌ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًۭا ﴿١٩﴾الأحزاب.

وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿١٠٣﴾يوسف.

أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِـَٔايَـٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْنًۭا ﴿١٠٥﴾الكهف.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍۢ شَهِيدًۭا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴿٨٤﴾النحل.

إذًا فَمِعْيَارُ العَدْلِ اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِى يُحَدِّدَهُ، وَطَالَمَا أعْلَمَنَا أنَّهُ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِن أعْمَالِ العِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَأنَّهُ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ، وَأَنَّ العِبَادَ أحْرَارٌ فِى أعْمَالِهِم، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أنْ نَفْهَمَ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ، وَعَن مَعَايِيرِ العَدْلِ فِى كِتَابِهِ.

لَقَدْ سَوَّدَ الأستاذ شَحْرور العَدِيدَ مِنَ الصَفْحَاتٍ الَّتِى تَعَدَّت الخَمْسَةَ ءَالاَفِ لَفظًا (5000)، حَاولَ فِيهِنَّ بِكُلِّ مَا يَملُكَ أنْ يُصَوِّرَ اللهَ تَعَالىَ بِأنَّهُ لاَ يَعْلَمُ أعْمَالَ العِبَادِ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، وَأَنَّ عِلْمَهُ ريَاضِىٌّ يَقَفُ عِنْدَ العِلم بِالاِحْتِمَالاَتِ كُلِّهَا فَقَط، دُونَ تَحْدِيدٍ لاحْتِمَالٍ مِنْهَا، وَأقْصَى مَا يُمْكِنُ أنْ يُقَالُ عِنْدَهُ هُوَ عِلْمُ اللهِ بِمَا يُضْمِرَهُ النَّاسُ فِى أنْفُسِهِم؛ وَكُلَّ هَذِهِ المُحَاوَلاَتِ الَّتِى تَمَّت كَانَ غَطَاؤهَا التَبْريِرِىُّ عِنْدَهُ هُوَ إثْبَاتُ العَدْلِ للهِ وَإنْ أثْبَتَ أيْضًا الجَهْلَ للهِ وَحَاشَاهُ. وَقَدْ رَأينَا هُنَا كَيْفَ أنَّ العَدْلَ مُثْبَتٌ للهِ مَعَ ثَبَاتِ العِلمِ لَهُ أيْضًا، فَسُبْحَانَ مَنْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَلاَ يَظْلِمُ أحَدًا.

الخاتمة

لَقَدْ بَيَّنتُ فِى الصَفَحَاتِ السَابِقَةِ (لِلبَاحِثِ عَنِ الحَقِّ) مِن خِلاَلِ مَحَاورٍ عِدَّةِ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى فِى شَأنِ عِلْمِهِ، كَمَا بَيَّنْتُ قَدْرَ الزَلَلِ وَالشَطَطِ فِى شُبُهَاتِ مَنْ ظَنُّوا أنْفُسَهُم عَلَى شَيْءٍ، وَهُم يَقُولُون بِأنَّ الزَّمَن كَانَ حَائِلاً يَمْنَعُ اللهَ تَعَالَى ـ وَحَاشَاهُ ـ مِنَ العِلْمِ بِمَا سَيَعْمَلُهُ العِبَادُ، حَتَّى أنَّهُم قَاسُوا حَالَ اللهِ عَلَى حَالِهِم، وَألْزَمُوا اللهَ بِدَينُونَتِهِم، وَمَحْدُوُدِيَّتِهِم، وَلَم يَجُعَلُوا اللهَ سُبْحَانَهُ مَرْجِعًا لَهُم فِى أمْرٍ خَطِيِرٍ مِثْلَ ذَلِكَ الأَمْرُ، وَتَجَاهَلُوا، أنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ الزَّمَن، فَلاَ يَصِحُّ مُجَرَّدِ التَفْكِير فِى أنَّ مَخْلُوقًا مَا، أصْبَحَ قَيْدًا عَلَى الخَالِقِ، وَحَاشَاهُ، فَضْلاً عَن أنَّهُم جَعَلُوا الزَّمَنَ مُطْلَقًا، وَجَهِلُوا أنَّ لُزُومَ الزَّمَنِ، هُوَ خَاصٌّ بِفِيزْيَاءِ الكَونِ المَخْلُوقِ، بِمَن فِيهِ مِن مَخْلُوقَاتٍ، لاَ بِالخَالِقِ، وَتَجَاهَلُوا مَسْألَةَ إِمْسَاكِ اللهِ بِكَوْنِهِ، وَأنَّ المُمْسِكَ بالكَوْنِ لاَبُدَّ وَأنْ يَكُونَ خَارِجَهُ، وَبِالتَالِى خَارِجَ قَوَانِينَهُ، وَجَهِلُوا مَسْأَلَةَ تَفَاعُلَ اللهِ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ فِى اللاَزَمَنِ، وَفَرَّقُوا (بِجَهْلٍ) بَيْنَ الزَّمَان، وَالمَكَانِ، بِغَيْرِ أىّ حُجَّةٍ، وَتَجَاهَلُوا مَسْألَةَ كَلاَمِ اللهِ بِصِيَغِ المَاضِى، لِمَا لَمْ يَأتِ بَعْدُ؛ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءِ الأَزْمِنَةِ بِالنِسْبَةِ لَهُ تَعَالَى.

أيضًا فَقَدْ تَجَاهَلُوا عَنْ عَمْدٍ أنَّ كُلَّ أَحْدَاثِ يَوْمَ القِيَامَةِ الَّتِى سَتَقَعُ فِي المُسْتَقْبَل قَدْ أخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَي بِالكَثِيرِ مِنْهَا، بِمَا فِى ذَلِكَ أفْعَالُ العِبَادِ يَومَئِذٍ. وَمِنهَا حِوَارَاتٌ جَرَت بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ رُسُلٍ بِعَيْنِهِم (كَعِيسَى)، وَبَيْنَ الرُسُلِ عُمُومًا، وَحِوَارَاتٌ جَرَت بَيْنَ أصْحَابِ النَّارِ وَبَيْنَ أصْحَابِ الجَنَّةِ، وَبَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أصْحَابِ النَّارِ، وَبَيْنَ الشَيْطَانِ وَبَيْنَ أصْحَابِ النَّارِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ الكَثِيرُ مِمَّا تَرَكْنَاهُ لِبَحْثِ القُرَّاءِ. وَكَانَ المُفْتَرَض ـ طِبْقًا لِمَذْهَبَىّ اليَهُودِ وَشَحْرُور فِى جَهْلِ اللهِ بأعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَليَّةِ عُمُومًا أوْ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ ـ ألاَّ يَعْلَم اللهُ مَا سَيَقُولهُ عِيسَى عِنْدَمَا يَسْأَلهُ اللهُ تَعَالَى، وَألاَّ يُوردُ مِثلَ هَذَا الحُوَار ـ الأُخْرَويّ ـ بكِتَابهِ، وَأَلاَّ يَعْلَمُ أَيْضًا أَفْعَالَ وَأَقْوَالَ النَّاسِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَأَصْحَابِ النَّارِ، وَمَالِكِ، وَأَصْحَابِ الجَنَّةِ .. الخ. وَلَكِنَّ الحَادِثَ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ، مَا يَدُلُّ عَلَي خَطَأِ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ أَصْحَابُ القَوْل الخَاطِئ، وَعَلَى أنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى هُوَ عِلمٌ مُحِيطٌ، وَعَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، لاَ عَلَى وَجْهِ الاحْتِمَالِ، كَمَا يَتَوَهَّمُ قَلِيلُوا العِلْمِ والتَقْوَى، مِمَّن يُجَادِلُونَ فِى اللهِ تَعَالَى بِغَيرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدَىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ.

أيْضًا فَقَدْ رَأيْنَا فِى المِحْوَر الثَالِثِ كَيْفَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِرَسُولِهِ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وَمَا تَأخّر، وَمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَحْدُثَ لَوْلاَ عِلْمُ اللهِ بِسَلاَمَةِ رَسُولِهِ مِنَ الشْرِكِ حَتَّى نِهَايَةِ عُمُرِهِ، كَمَا رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ بمَا سَيَفْعَلَهُ فِرْعَوْنُ مَعَ مُوسَى، قَبْلَ وُقُوعِهِ، كَمَا نَاقَشْنَا مَسْألةَ كِتَابَةِ عُمْر المُنْتَحِر مِن قَبْلِ أنْ يَنْتَحِر، كَمَا رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى العِلْمِ بَمَا خَلْفَ النَّاسِ، وأخْبَرَ بِمَا سَيَقُولُهُ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ مِن قَبْلِ أنْ يَقُولُوه، كَمَا نَاقَشْنَا مَسْألةَ القُرَى المُهْلَكَةِ بِسَبَبِ أعْمَالِهَا، وَكَيْفَ أنَّ الإهْلاَكَ كَانَ مَكْتُوبٌ مِن قَبْلِهَا، وَرَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أخْبَرَ بِدُخُولِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَبِإفْسَادِ بَنِى إسْرَائِيل مَرَّتَيْنِ مِن قَبْلِ أنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ، وَأخِيرًا فَقَدْ رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ بمَا سَيَفْعَلهُ قَوْمُ نُوُحٍ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ رَسُولَهُ نُوحَ بِذَلِكَ مِن قَبْلِ أنْ يَحْدُثَ، مَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ أنَّ اللهَ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكَوْنِهِ، بِمَا فِى ذَلِكَ العِبَادِ، وَأعْمَالِهِم.

ثُمَّ رَأيْنَا كَيْفَ أنَّ الأَمْرَ لَم يَتَوَقَّفُ عِنْدَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِمَا سَيَكُونُ، وَإنَّمَا تَعَدَّاهُ إلىَ مَا لَنْ يَكُونَ، كَيْفَ كَانَ سَيَكُونُ لَوْ كَانَ، إذْ إنَّ عِلْمَ اللهِ هُوَ عِلْمٌ تَجْريدِىٌّ، بِمَعْنَى أنَّهُ عِلْمٌ مُجَرَّدٌ مِنَ الوَاقِعِ وَالحُدُوثِ، أوْ بِصِيغَةٍ أُخْرَى هُوَ عِلْمٌ بِالوَاقِعِ وَبِمَا سَيَكُونُ مِن غَير تَحَقُّقِ هَذَا الوَاقِع. أى أنَّ التَجْريدَ يَعْنِى هُنَا العِلْمَ بِمَا سَيَكُونُ فِى أىّ اتِجَاهٍ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، لَوْ شَاءَهُ اللهُ، أوْ لَمْ يَشَأهُ.

أيْضًا فَقَدْ نَاقَشْنَا كَيْفَ أنَّ بَعْضَ العِبَادِ قَدْ عَلِمَ بَعْضَ مَا سَيَعْمَلُهُ غَيْرُهُم مِن العِبَادِ، كَعِلْمِ عِيسَى، وَيُوسُفَ، وَيَعْقُوبَ، وَعَبْدُ اللهِ الصَالِحُ بِأعْمَالِ بَعْضِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، وَعِلْمُ عِيسَى بِبَعْضِ أعْمَالِ نَفْسِهِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، والَّذِى أنْبَأهُم كُلَّهُم هُوَ اللهُ تَعَالَى.

ثُمَّ تَنَاولْتُ شُبُهَاتِ القَوْمِ، حَيْثُ كَانَت الشُبْهَةُ الأُولَى هِىَ أنَّ عِلْمَ اللهِ بِمَا سَيَعْمَلُهُ النَّاسُ يَقْتَضِى الجَبْر، والجَهْلُ هُوَ سَبيلِ الحُرِّيَةِ وَالعَدْلِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ أنَّ العِلْمَ المُسْتَقْبَلِىّ بِأعْمَالِ العِبَادِ هُوَ عِلْمٌ بِالاخْتِيَاراَتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أوْ المَقْبُولِ أنْ يَقُومَ اللهُ تَعَالَى بِتَعْطِيلِ عِلْمِهِ لِيَرْضَى النَّاس، كَمَا بَيَّنْتُ أنَّ العِلْمَ عِلْمَانٍ، وَهُمَا العِلْمُ المُسْتَقْبَلِىُّ بِأعْمَالِ العِبَادِ، وَالعِلْمُ الوَاقِعِىُّ، وَأيْضًا فَالعِلْمُ يَعْنِى العِلْم لاَ الإجْبَار. ثُمَ نَاقَشْتُ الشُبْهَةُ الثانيةُ القَائِلَةُ بِأَنَّ عِلْمَ اللهِ احْتِمَالِىٌّ، فَبَيَّنْتُ كَيْفَ تَمَّ التَلاَعُب بِالأَلْفَاظِ، وَهُوَ لَيْسَ مِن شِيَمِ العُلَمَاءِ فَضْلاً عَن المُتَّقِين، وَبَيَّنْتُ سَخَافَةُ وَعَبَثِيِّةُ القَوْلِ بِالعِلْمِ الاحْتِمَالِىّ، وَكَيْفَ بَرَعَ الأُسْتَاذُ شَحْرُورُ فِى فَسَادُ الاسْتِدْلاَلِ وَإسَاءَةُ تَنَاولِ الأَدِلَّةِ وَهُوَ يُزَخْرِفُ شُبْهَتَهُ. ثُمَ نَاقَشْتُ الشُبْهَةُ الثَالِثَةُ القَائِلَةُ بِأَنَّ عِلْمُ اللهِ إحْصَائِىٌّ عَدَدِىٌّ، فَبَيَّنْتُ فَسَادُ فَهْمِ شَحْرُورِ لِلعِلْمِ الإحْصَائِىّ، وَأَنَّ الإحْصَاءَ فِى القُرْءَانِ يُحِيطُ بِالمُحْصَى، وَأنَّ عِلْمَ اللهِ بِالأَشْيَاءِ لَيْسَ كَمَا قِيِلَ “عَدَدِىٌّ رِيَاضِىٌّ”، وَإنَّمَا هُوَ عِلْمٌ كَامِلٌ، شَامِلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، بِمَا فِى ذَلِكَ الألْوانِ وَالأحْجَامِ، والمُكَوِّنَاتِ الأَوَّلِيَّةِ، وَالأشْكَالِ، . . الخ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: ” وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)” النبأ.

وَأخْتِمُ هَذِهِ الخَاتِمَةَ بِالتَعْلِيقِ عَلَى الهُرَاءِ الَّذِى قَالَهُ شَحْرُور مُتَجَاوِزًا بِهِ فِى حَقِّ اللهِ تَعَالَى؛ فَقَالَ إنَّ الإنْسَانَ يُوجَدُ فِيهِ شَيىٌ مِن ذَاتِ اللهِ، وَأنَّ الإنْسَانَ فِيهِ روحٌ، وَأنَّ هَذِهِ الرُوحُ المَوجُودَةُ فِى الإنْسَانِ هِىَ جُزءٌ مِن ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا أمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ الإنْسَان. فَجَعَلَ شَيئًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ فِرعَون (مَثَلاً) وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى (وَحَاشَاه). وَهُوَ كَلاَمٌ يَخْرُجُ كَسَابِقِه، وبِنَفْسِ جِينَاتِهِ وَمَلاَمِحِهِ: فَهُوَ كَلاَمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلاَ هُدَىً، وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ، بَل وَلاَ أتَجَاوزُ إذَا مَا قُلْتُ إنَّهُ كَلاَمٌ بِجَهْلٍ، وَافْتِرَاءٍ، وَلا يَقَفُ أمَامَ النَقْدِ العِلْمِىّ وَلاَ لِلَحظَةٍ وَاحِدَةٍ، إذ يَقْبَعُ تَحتَ مَظَلَّةِ البَاطِل، والبَاطِلُ كَمَا نَعْرِفُ زَهُوقٌ لاَ نَفَسَ لَهُ.

يَقُولُ شَحْرُور:

“الإنسان خليفة الله في الأرض وأنه يوجد في الإنسان وليس في الكائنات الحية الأخرى شيء من ذات الله وهو الروح وبها أصبح خليفة الله في الأرض واكتسب المعارف وأصبح قادرا على المعرفة والتشريع. هذه النقطة إذا نسيناها فإن السلوك الإنساني سيتحول إلى مجموعة من الصور المتحركة يديرها الذي صممها “أفلام كرتون”. ولكن إذ قلنا إن هناك أمرا مشتركا بين الله والإنسان وهو الروح، أي إذا قلنا إن الصور المتحركة فيها شيء من ذات المصمم لتغير الأمر” (4).

انْظُرُوا إلَى الفَهْمِ الضَيِّقِ، والتَهَوُّرِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَكَأنِّى بِالمَذْكُورِ لَمْ يَمُرُّ وَلاَ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:

..لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَىْءٌۭ ۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ ﴿١١﴾الشورى.

إنَّ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: “فَإِذَا سَوَّيْتُهُۥ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى“، لاَ يَعْنِى أنَّ الرُوحَ مِن مُكَوِّنَاتِ اللهِ، وَأَنَّهُ قَدْ نَفَخَ فِى البَشَرِ جُزْءًا مِنْهَا، وَإنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

..فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًۭا سَوِيًّۭا ﴿١٧﴾مريم.

فَهَلْ الرُوحُ المُرْسَلُ هُنَا هُوَ جُزْءٌ مِن ذَاتِ اللهِ، أم خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللهِ؟!

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَ‌ٰنَ ٱلَّتِىٓ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا…﴿١٢﴾التحريم.

نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ ﴿١٩٤﴾الشعرآء.

أنَا لاَ أدْرى كَيْفَ سَيَكُونُ مَوْقِفُ قَائِلُ هَذَا يَومَ الحَشْر، وَهُوَ الَّذِى كَانَ يَدعُوا النَّاسَ فِى الدُنيَا لِلتَقَوُّل عَلَى اللهِ (مِثْلَهُ) بِغَيْر عِلْم، فَأَسَاء وَأَضَلّ.

يَا شَحْرُور تَرَاجَع عَن قَوْلِكَ هَذَا، وَأعْلِن عَن تَرَاجُعِكَ عَلَى المَلأِ، وَاسْتَغْفِر اللهَ عَسَىَ أن يَغْفِرَ اللهُ لَك، فَإنَّ الأمْرَ شَدِيدٌ، وَلَنْ يَنْفَعُكَ أنْ تَقُولَ كَنْتُ أحْسَبُ، وَكُنْتُ أظُنُّ.

إنَّ الكَلاَمَ فِى ذَاتِ اللهِ، وَفِى أسْمَائِهِ، لَيْسَ بِالأَمْرِ الهَيِّنِ، والمَيْلُ بِمَعْنَى اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ:

وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا۟ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ أَسْمَـٰٓئِهِۦ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴿١٨٠﴾الأعراف.

وَكَذَلِكَ المَيْلُ بِمَعْنَى ءَايَةٍ مِنْ ءَاياتِ اللهِ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ:

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ ءَايَـٰتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِى ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىٓ ءَامِنًۭا يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۚ ٱعْمَلُوا۟ مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٤٠﴾فصلت.

قَدْ نَبَّهْتُكَ فِى الدُنْيَا، وَعَلَى المَلأِ، فَإنْ انْتَبَهْتَ فَلِنَفْسِكَ، وإنْ اسْتَكْبَرتَ فَلْتَلْقَ مَا سَتَلْقَاهُ.

أنْتَ الَّذِى سَتَحْمِلُ أوْزَارِكَ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ إلاَّ مَنْ أتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيِمٍ، وَإنِّى لأدعُوَا اللهُ لَكَ ولأخِى عَبْد العَزِيِزِ الشِرْبِينِى أنْ تَسْتَدْرِكَا قَبْلَ أنْ تُوَافِى المَنِيَّةُ أحَدَكُمَا، لاَ سِيَّمَا وَأنَّنَا كُلَّنَا صِرْنَا فِى نِهَايَاتِ أعْمَارِنَا.

اللَّهُمَ قَدْ بَلَّغْتُ بِمَا فِى كِتَابِكَ، وَلاَ رَأىٌ شَخْصِىٌّ لِى هَا هُنَا؛ فَاغْفِر لِى وَارحَمْنِى، وَارْزُقْنِى مِن لَدُنْكَ وَلِيًّا نَصِيرًا، وَءَاخِرُ دَعْوَاىَ أنْ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.


1 ـ وهو كقوله تعالي: “وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)” الكهف .فالقوم قد سَلَّموا بالواقع، وهاهم يتذكرون كل ما مرّ على ذاكرتهم، ويُعرض أمامهم من أعمالهم التي اكتسبوها، وبالتالي فاللهُ تعالى عندهم يعلم، والذي جعله سبحانه (عندهم) يعلم، هو الوجود الذي وُجِدُوه، والأعمال التي عملوها، ولولا ذلك التحقق الوجودي، لما سلّم أهل النار (مثلاً) بمألهم، ولما سلَّموا بعلمِ اللهِ تعالى من كونِهِم يستحقون النار لفساد طويتهم.

2 ـ راجِع الكَلاَم بِتَمَامِهِ، وَلَن تَجِدَ أى فَرق ذُو أهَمْيَّةِ.

3 ـ والتَفَاصِيلُ هُنَا يَصْعُبُ حَصْرُهَا، وَلَكِن لِنَقُل إنَّ مِنْهَا أسْمَاءَهُم، وَأنْوَاعَهُم، وَألْوَانَهُم، وَأعْمَارَهُم، وَمَلاَمِحَهُم، وَأوْزَانَهُم، وَاَطْوَالَهُم، وَعَاهَاتِهِم، وَأمْرَاضَهُم، وَطُمُوحَاتِهِم، وَعَدَدَ خَلايَهُم، وَجِينَاتِهِم، وَفَصَائِلَ دِمَائِهِم، وَبَصَمَاتِ أصابِعَهُم، وَأصْوَاتِهِم، وَمَا هُوَ أدَقَّ مِن ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى.
4 ـ انظُر: شحرور؛ الكِتاب والقُرآن (ص: 390).
Subscribe
نبّهني عن
guest

7 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
أبو نضال .
أبو نضال .
8 سنوات

جزاكم الله خيرا !! وأرجو أن تبينوا صحة أو بطلان تقسيمه لكتاب الله ..

عبد الله
عبد الله
8 سنوات

اخي الكريم مخاطبتك للدكتور شحرور تنم عن تعليم لانسان جاهل اي انك العالم والدكتور جاهل فمن خلال طرحك تبين لي انك لم تفهم ما قصده الدكتور شحرور وخاصة في ما يتعلق بالمصطلحات علم رياضي مثلا او الحتمالات لعلم الله بافعال الانسان الدكتور شحرور لا يقول ان الله لا يعلم ما ذا سيحصل لفلان من الناس ان اختار اليمان او الكفر ولكن لم يكن مقررا من قبل ومكتوب عليه والا لاصبحت المساله مقررة سلفا كانها مسرحيةاي مقررة الاحداث سلفا ثانيا انصحك بالعلوم الاخرى ان تطالعها علاوة على العلوم الشرعية ثم دعك من الاستعلاء في التخاطب وانتقي الالفاظ المناسبة والرقيقة في تخاطبك مع الدكتور شحرور فوالله انه جاء بعلم لم ياته احد من قبله وواضح من كلامك انك لم تات بشيء جديد البتة من خلال ردك على الدكتور شحرور خاطب العلماء بقدر مقامهم لا بقدر مقامك الذي تظنه انك عالم وتصلح اخطاء تلاميذ الله يهديك ويزيدك علما

عيسى
عيسى
7 سنوات

رغم انني لم اقتنع بكلام الشحرور لكن هذا الرد لا يدحض كلامه.

عبد السلام
عبد السلام
3 سنوات

السلام عليكم : قلت : “وَوَاللهِ إِنَّهُ كَلاَمٌ لاَ يُسَاوى حَتَّى قِيمَةِ الحِبْرِ الَّذِى خُطَّ بِهِ” ثم ذهبتَ تكتبُ كلاما كثيرا ترُد فيه ، وكلامك كلّه محاولة فاشلِة لتمرير شطحات الشيوخ ومذاهبهم المتشددة.
كيف إذًا ترد على قول الله : ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ؟

ملحوظة: تم حذف البذآءة من التعليق

7
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x