الحَسَدُ (لاَ عِلاَقَةَ لَهُ بِالعَيْنِ)

◄ يَخَافُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ ذِكْرَهُم لأَحْوَالِهِم الدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا فِيِهَا مِنْ يُسْرٍ وَنِعَمٍ، أوْ اطِّلاَعِ أَحَدٍ عَلَيْهَا، قَدْ يَتَسَبَّبُ فِى وُقُوعِ المَصَائِبِ لَهُمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْلَ هَذِهِ النِّعَمِ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الحِقْدِ، وَالحَسَدِ بِتَمَنِّى زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْهُم؛ لِيَسْتَوُوا مَعَهُم فِى النَّقْصِ، وَبِالتَّالِى فَقَدْ أَضْحَى الحَسَدُ عِنْدَهُم مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ، بِمُجَرَّدِ وُقُوعِهِ فِى نَفْسِ الحَاسِدِ. أيْضًا فَقَدْ أَضْحَى لِلعَيْنِ فِيِهِ النَّصِيِبُ الأَكْبَرُ. وَبَنَى هَؤُلَآءِ فِكْرَهُم هَذَا عَلَى فَهْمٍ غَيْرِ صَحِيِحٍ لِبَعْضِ الأَيَاتِ، حَتَّى أَنَّهُم ذَهَبُوا إِلَى عَكْسِ مَا تَهْدِى إِلَيْهِ هَذِهِ الأَيَاتُ، وَلَمْ يَقُل هَؤُلَآءِ ذَلِكَ إِلاَّ لِغِيَابِ عِدَّةِ أَشْيَآءٍ عَنْهُم، وَمِنْهَا:

1 ـ جَهْلُهُم بِأَنَّ الحَسَدَ هُوَ مُجَرَّدُ دَافِعٍ (وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِبَيَانِ المَعْنَى الصَّحِيِحِ لِلحَسَدِ)!

2 ـ جَهْلُهُم بِمَوْضُوعَاتِ الأَيَاتِ الَّتِى وَرَدَ الحَسَدُ بِهَا (وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِبَيَانِ المَعْنَى الصَّحِيِحِ لِلأَيَاتِ).

3 ـ جَهْلُهُم بِالعِلاَقَةِ بَيْنَ الدِّيِنِ والدَّوافِعِ (وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِبَيَانِ هَذِهِ العِلاَقَةِ، مَع الكَلاَمِ عَلَى الدَّوافِعِ، وَالاحْتِيَاجَاتِ، المَادِّىِّ مِنْهَا وَالمَعْنَوِىِّ).

4 ـ جَهْلُهُم بِالتَّكَامُلِ الوَاقِعِ بَيْنَ ءَايَاتِ الكِتَابِ فِى هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَيَاتِ (وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِبَيَانِ هَذَا التَّكَامُلِ).

5 ـ جَهْلُهُم بِمَكَانَةِ اللهِ وَمَوْقِعِهِ مِنَ الأَحْدَاثِ (وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِبَيَانِ مَوْقِعِ اللهِ مِنَ الأَحْدَاثِ).

6 ـ وُقُوعُهُم فَرِيِسَةٌ لِلمَوْرُوثِ (وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِبَيَانِ فَسَادِ المَوْرُوثِ وَأَصْلِهِ).

7 ـ وُقُوعُهُم فِى مَصْيَدَةِ الاسْتِعْلَاءِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ؛ (وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ).

وَلِلبَيَانِ:

. بَيَانُ وَمَعْنَى الحَسَدِ: الحَسَدُ عِنْدَ اللهِ وَفِى كِتَابِهِ الكَرِيم هُوَ مُجَرَّدُ دَافِعٌ نَفْسِىٌّ، عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِكْثَارِ طَرَفٍ لِنِعْمَةٍ مَا، لَدَى طَرَفٍ ءَاخَرٍ، وَلَا عِلَاقَةَ لَهُ بِالعَيْنِ، أَوْ بِحَاسَّةٍ بِعَيْنِهَا، وَلاَ عِلاَقَةَ لِمَوَارِدِهِ فِى القُرْءَانِ بِتَمَنِّى زَوَالِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَ النَّاس، وَإِنَّمَا جَآءَ مَنَاطُهُ فِى الكِتَابِ بِاخْتِصَاصِ الدِّيِنَ، وَوَقَعَ مِنْ قِبَلِ الكُفَّارِ (خُصُوصًا)، وَلْنُرَاجِعَ هَذِهِ المَوَارِدَ بِالكِتَابِ:

.أ ـ مَوَارِدُ لَفْظِ “الحَسَدِ” فِى القُرْءَانِ:

جَآءَت كَلِمَةُ الحَسَدِ فِى القُرْءَانِ خَمْسَ مَرَّاتٍ بِأَرْبَعِ ءَايَاتٍ؛ كَالتَّالِى:

1 ـ “وَدَّ كَثِيرٌۭ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًۭا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ ۖ..(109)البَقَرَةُ.

2 ـ “أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۖ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَ‌ٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـٰهُم مُّلْكًا عَظِيمًۭا(54)النِّسَآء.

3 ـ “سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا۟ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَ‌ٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا۟ لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًۭا(15)الفَتْحُ.

4 ـ “وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5)الفَلَق.

. هَذِهِ هِىَ كُلُّ مَوَارِدِ الحَسَدِ فِى القُرْءَانِ. وَوَاضِحٌ طَبْعًا غِيَابُ النَّصِّ عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ العَيْنِ، وَالأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنَّ المَوْضُوعَ لَا عِلَاقَةَ لَهُ بِمَا عَشَّشَ فِى رُؤُوسِ البَعْضِ مِنْ خَيَالاَتٍ وَأَوْهَامٍ لَا أَسَاسَ لَهَا. وَلْنَبْدَأ فِى بَيَانِ المَعْنَى الصَّحِيِحِ لِلحَسَدِ: 

2 ـ شَرْحُ مَعَانِى الأَيَاتِ:

اعْلَم بِدَايَةً قَبْلَ تَنَاوُلِ الأَيَاتِ الخَاصَّةِ بِالحَسَدِ أَنَّ النَّاسَ بِقُدْرَتِهِم عَلَى الاكْتِسَابِ والاخْتِيَارِ قَدْ افْتَرَقُوا إِلَى فَريِقَيْنِ، أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ للهِ، وَالأَخَرُ غَيْرُ مُسْلِمٍ لَهُ تَعَالَى. فَالمُسْلِمُ للهِ ضَبَطَ حَرَكَتَهُ كُلَّهَا عَلَى كِتَابِ رَبِّهِ، فَهُوَ قَائِمٌ بِالقِسْطِ، وَيَخْشَى رَبَّهُ، وَيَمْتَثِلُ لأَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ‌ٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ ..”. أَمَّا غَيْرُ المُسْلِمِ فَهُوَ سَاعٍ بِالظُّلْمِ وَالعُدْوَانِ، وَمُتَشَبِّعٍ بِهِمَا، كَمَا يَأمُرُهُ هَوَاهُ.

وَهَذَا الظُّلْمُ يَسْرِى فِى غَيْرِ المُسْلِم للهِ؛ فِكْرًا، عَلَى نَفْسِهِ، فَقَلْبِهِ، وَعَمَلاً، عَلَى جِسْمِهِ، فَأَعْضَآءِهِ.

فَأَمَّا مَا يَسْرِى فِكْرًا عَلَى النَّفْسِ، فَالقَلْبِ، فَهِىَ مَشَاعِرُ البُغْضِ، وَالكُرْهِ الأَعْمَى لِغَيْرِ بَنِى سَبِيِلِهِ، وَالَّتِى يَتَمَخَّضُ عَنْهَا الحَسَدُ، وَهُوَ اسْتِكْثَارُ نِعْمَةِ الدِّيِنِ وَالهُدَى عَلَى مُخَالِفِهِ، مَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الرَّغْبَةُ اللَّحُوحِ فِى زَوَالِ هَذِهِ النِّعْمَةِ.

إِذَا نَحْنُ أَمَامَ سِلْسِلَةٍ مِنَ السُّلُوكِ المُنْحَرِفِ، الَّذِى يَبْدَأُ بِالبُعْدِ عَنِ اللهِ، وَعَدَمِ الإِسْلاَمِ لَهُ، مُرُورًا بِاكْتِسَابِ الظُّلْمِ، فَالكُرْهِ لِلمُسْلِمِ، وَتَنْتَهِى بِالحَسَدِ لَهُ، وَتَمَنِّى زَوَالِ نِعْمَةِ الإِسْلاَمِ عَنْهُ.

هَذَا الحَسَدُ بِمَا يَعْقُبُهُ مِنْ رَغْبَةٍ فِى التَّدْمِيِرِ قَدْ يَنْتَقِلُ إِلَى حَيِّزِ الوَاقِعِ، وَالتَّنْفِيِذِ، وَهُنَا يَبَدَأَ الشَّرُّ. وَهَذَا الشَرُّ تَقُومُ الأَعْضَآءُ بِتَنْفِيِذِهِ، فَتَسْلُكُ سَبِيِلَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا؛ فَإِمَّا أَنْ تُفَعِّلَ الحَسَدَ فِى الاتِّجَاهِ المَعْنَوِىِّ، كَالتَّشْكِيِكِ، وَإِثَارَةِ الفِتَنِ، وَالغَمْزِ، وَاللَّمْزِ،..الخ، وَإِمَّا أَنْ تُفَعِّلَ الحَسَدَ فِى الاتِّجَاهِ المَادِّىِّ، كَالقِتَالِ، وَالإِغَارَةِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالحِصَارِ،..الخ.

هَذَا هُوَ الحَسَدُ فِى كِتَابِ اللهِ، لاَ يَتَجَاوَزُ الرَّغْبَةَ، وَلاَ ضَرَرٌ مِنْهُ إِلاَّ إِذَا تَمَّ تَفْعِيِلَهُ بِفِعْلٍ عَلَى الأَرْضِ، وَفِى الوَاقِعِ، وَبِذَلِكَ نَفْهَمُ دَوْرَ الاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ مِنَ الشَّرِ المُحْتَمَلِ لِلحَسَدِ إِذَا مَا تَفَعَّلَ. وَلنَسْتَعْرِضَ الأَيَاتِ:

.الأَيَةُ الأُولَى: وَهِىَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

“وَدَّ كَثِيرٌۭ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًۭا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ ۖ..﴿١٠٩﴾” البَقَرَةُ.

1 ـ فَأَوَّلُ مَانُلاَحِظَهُ فِى الأَيَةِ هُوَ أَنَّ الحَسَدَ كَانَ هُوَ الدَّافِعُ لَدَى الكَثِيِرِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، لإِحْدَاثِ الوُدِّ عِنْدَهُم، لِرَدِّ المُؤْمِنِيِنَ كُفَّارًا، وَلَكِنَّ الحَسَدَ ظَلَّ كَمَا هُوَ دَافِعًا لاَ أَكْثَرُ، وَلَمْ يُؤَثِّرُ بِذَاتِهِ فِى المُؤْمِنِيِنَ، وَلاَ فِى دِيِنِهِم.

2 ـ وَثَانِى مَانُلاَحِظَهُ فِى الأَيَةِ هُوَ أَنَّهُ حَتَّى الوُدَّ المُتَوَلِّدَ مِنَ الحَسَدِ لَمْ يُؤَثِّرُ هُوَ أَيْضًا بِذَاتِهِ فِى المُؤْمِنِيِنَ، وَظَلَّ مُجَرَّدَ وُدٍّ، وَلَمْ يَرْتَدّ المُؤْمِنُونَ عَنْ دِيِنِهِم كُفَّارًا. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: “وَدُّوا۟ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ”، فَوُدَّهُم لَمْ يَجْعَل النَّبِىَّ يُدْهِنُ.

3 ـ كَمَا نُلاَحِظُ أَيْضًا أَنَّ الحَسَدَ هُنَا مُرْتَبِطٌ بالدِّيِنِ، وَلَيْسَ بِعَرَضٍ دُنْيَوِىٍ، يُخَافُ عَلَى ذَهَابِهِ.

وَسَيَأتِى الرَّبْطُ بَيْنَ هَذِهِ الأَيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَيَاتِ عِنْدَ مُنَاقَشَةِ الأَيَةِ الرَّابِعَة.

.الأَيَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِىَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

“أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۖ ..(54)” النِّسَآء.

وهِىَ الَّتِى أَسَآءَ الكَثِيِرُونَ فَهْمَهَا، فَحَسِبُوا أَنَّ الفَضْلَ هُنَا هُوَ المَتَاعُ الدُّنْيَوِىُّ، وَأَنَّ الحَسَدَ يُذْهِبَهُ بِذَاتِهِ، وَأَلِيَّةُ حُدُوثِ ذَلِكَ هِىَ العَيْنُ:

1 ـ فَنَجِدُ أَنَّهَا قَدْ تَعَلَّقَت بِمَا ءَاتَاهُ اللهُ لأَلِ إِبْرَاهِيِم مِنْ الكِتَابِ، وَالحِكْمَةِ، وَالمُلْكِ العَظِيِمِ، وَلَيْسَ عَلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَعَلَى المَالِ وَالبَنِيِنَ، وَمَا شَابَه، وَلِذَا فَقَدْ كَانَت تَكْمِلَتُهَا كَالتَّالِى:

“أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۖ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَ‌ٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـٰهُم مُّلْكًا عَظِيمًۭا (54)” النِّسَآء.

2 ـ وَأيْضًا فَقَدْ تَنَاوَلَت الأَيَةُ فِعْلاً قَلْبِيًّا، وَهُوَ الحَسَدُ، مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ  لَا تَأثِيِرَ لَهُ بِنَفْسِهِ، إِذْ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُم حَسَدُوا إِبْرَاهِيِمَ وَءَالِهِ عَلَى مَا ءَاتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَلَمْ يُذْهِبُ ذَلِكَ مَا ءَاتَاهُ اللهُ إِبْرَاهِيِمَ وَءَالِهِ مِنَ الكِتَابِ والحِكْمَةِ وَالمُلْكِ… يَتْبَعُ .

الأَيَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِىَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

“سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا۟ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَ‌ٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا۟ لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًۭا (15)” الفَتْح.

1 ـ فَنَجِدُ أَنَّ الحَسَدَ هُنَا فِى الأَيَةِ مَذْكُورٌ عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ ادِّعَآءٍ مِنَ المُنَافِقِيِنَ، يَلْصَقُونَهُ بِالمُؤْمِنِيِنَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِحُكْمِ اللهِ عَلَيْهِم؛ أَنَّهُم لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًۭا، أَنَّهُ لاَ هُنَاكَ حَسَدٌ وَلاَ فِعْلٌ. وَبِالتَّالِى فَإِنَّ الأَيَةَ لاَ تُفِيِدُ فِى بَيَانِ الحَسَدِ.

2 ـ كَمَا نَجِدُ أَنَّ الأَيَةَ تُبَيِّنُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ سَلَفًا بِعَدَمِ خُرُوجِ المُخَلَّفِيِنَ مِنَ المُنَافِقِيِنَ مَع المُؤْمِنِيِن:

“فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍۢ مِّنْهُمْ فَٱسْتَـْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا۟ مَعِىَ أَبَدًۭا وَلَن تُقَـٰتِلُوا۟ مَعِىَ عَدُوًّا ۖ إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ فَٱقْعُدُوا۟ مَعَ ٱلْخَـٰلِفِينَ (83)” التَّوْبَة.

فَحَاوَلَ المُنَافِقُونَ الالْتِفَافَ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْرُجُوا مَعَ المُؤِمِنِيِنَ، لاَسِيَّمَا بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّ الخُرُوجَ لأَخْذِ المَغَانِمِ، فَلَمَّا مُنِعُوا مِنَ الخُرُوجِ مَعَ المُؤْمِنِيِنَ، اتَّهَمُوا المُؤْمِنِيِنَ بِأَنَّ المَنْعَ هُوَ أَمْرٌ شَخْصِىٌّ مِنَ المُؤِمِنِيِنَ بِدَافِعِ الحَسَدِ لَهُم عَلَى أَمْوَالِهِم؛ إِذْ المُنَافِقُونَ يَتَمَيَّزُونَ بِالثَّرِاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

“فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَ‌ٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا (55)” التَّوْبَة.

“فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓا۟ أَن يُجَـٰهِدُوا۟ بِأَمْوَ‌ٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ (81)” التَّوْبَة.

“سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَ‌ٰلُنَا وَأَهْلُونَا (11)” الفَتْح.

فَلَمَّا أَرْجَعَ المُخَلَّفُونَ المَنْعَ إِلَى دَافِعِ الحَسَدِ وَصَفَهُمُ اللهُ بِأَنَّهُم لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيِلاً:

“…فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا۟ لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًۭا”.

فَالاسْتِنْكَارُ هُنَا لَيْسَ لِلحَسَدِ كَمَوضُوعٍ، وَإِنَّمَا لِلزَّجِ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

2 ـ كَمَا نُلاَحِظُ أَنَّ المُنَافِقِيِنَ أَنْفُسِهِم يَفْهَمُونَ المَعْنَى الصَّحِيِحِ لِلحَسَدِ، وَأَنَّهُ لاَ يَعْدُوَا أَنْ يَكُونَ دَافِعًا فَقَط لِمَا بَعْدَهُ مِنْ فِعْلٍ، وَإِنْ كَانَ الفِعْلُ المَذْكُورُ (وَهُوَ المَنْعُ مِنَ الخُرُوجِ) لاَ عِلاَقَةَ لَهُ بِدَافِعِ الحَسَدِ، وَإِنَّمَا تَعَلُّقَهُ هُوَ بِحُكْمِ اللهِ السَّابِقِ بِحْرْمَانِ المُنَافِقِيِنَ مِنَ الخُرُوجِ مَعَ المُؤْمِنِيِنَ بَعْدَ أَنْ رَضُوا بِالقُعُودِ وَاَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ.

.الأَيَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِىَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

“وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ”.

1 ـ وَنُلاَحِظُ فِيِهَا أَنَّ اللهُ تَعَالَى يَأَمُرُ نَبِيَّهُ وَالمُؤْمِنِيِنَ بِأَنْ يَسْتَعِيِذُوا بِهِ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ. وَلَيْسَ مِنْ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.

فَالحَسَدُ كَمَا طَالَعْنَاهُ سَلَفًا هُوَ دَافِعٌ شَيْطَانِىٌّ، يَتَمَلَّكُ صَاحِبَهُ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الحَرَكَةِ ضِدَّ المَحْسُودِ، فَيَتَوَلَّدُ الشَّرُّ بِحَرَكَتِهِ وَأَفْعَالِهِ التَّالِيَةِ لِلحَسَدِ. وَطَالَمَا لَمْ يَتَحَرَّكَ الحَاسِدُ فَسَيَتَبَقَّى الحَسَدُ حَسَدًا، وَوُدًّا، وَرَغْبَةً،..الخ. وَلَكِن مَعَ الحَرَكَةِ فِى اتِّجَاهِ الحَسَدِ يَقَعُ الشَّرُّ، قَوْلاً وَعَمَلاً؛ فَجَاءَت الاسْتِعَاذَةُ مَعَ الحَرَكَةِ، وَمَا يُصَاحِبُهَا مِنْ شَرٍّ. وَلَوْ كَانَ الحَسَدُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ كَمُؤَثِّرٍ لَقَالَ اللهُ تَعَالَى: “وَمِنْ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ”، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ قَالَ: “وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ”، لأَنَّ الحَسَدَ لَيْسَ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا بِمَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ حَرَكَةٍ شِرِّيِرَةٍ، تَجْلُبُ الشَّرَّ… يَتْبَعُ .

الوُحْدَةُ المَوْضُوعِيَّةُ لأَيَاتِ الكِتَابِ:

يَعْلَمُ المُتَدَبِّرُ لأَيَاتِ كِتَابِ اللهِ أَنَّهُ ـ بِعَكْسِ كِتَابَاتِ البَشَرِ ـ لاَ يَأتِيِهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَيَقَعُ فِيِهِ التَّنَاقُضُ، وَمِنْ ثَمَّ فَمِنَ المَفْرُوغِ مِنْهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ الكِتَابُ بِالوِحْدَةِ المَوْضُوعِيَّةِ لأَيَاتِهِ، وَهُوَ مَا تَحَقَّقَ فِى الأَيَاتِ الأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ لِلحَسَدِ، مَعَ غَيْرِهَا مِنْ ءَايَاتِ الكِتَابِ كَالتَّالِى:

.أَوَّلاً: العِلاَقَةُ بَيْنَ الدِّيِنِ وَالدَّوَافِعِ:

1 ـ كُلُّ مَخْلُوقٍ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَهُ حَرَكَتُهُ، وَمَا دَامَ لَهُ حَرَكَةٌ فَهُوَ لَهُ (لُزُومًا) دِيِنٌ. وَالدِّيِنُ هُوَ نِظَامُ الحَرَكَةِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبَّانِيًّا، ءَاتٍ مِنَ الخَالِقِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانِيًّا ءَاتٍ مِنَ المَخْلُوقِ. فَإِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ فَقَدْ عَرِفْنَا بِالبَدَاهَةِ أَنَّ المَسَالِكَ سَتَكُونُ مُخْتَلِفَةً، وَسَيَقَعُ بَيْنَهَا الاصْطِدَامُ.

2 ـ وَالحَرَكَةُ (أَىُّ حَرَكَةٍ) يَلْزَمُهَا دَافِعٌ يُسَبِّبُهَا، وَيُنْشِئُهَا، وَيُغَذِّيِهَا لِتَسْتَمِرَّ أَوْ تَتَوَقَّفَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الدَّوافِعُ لَيْسَت مُتَمَاثِلَةً، أَوْ مُتَطَابِقَةً فِى مَنْشَئِهَا. فَمِنْهَا المَادِّىُّ الَّذِى يَتَعَلَّقُ بِالنَّاحِيَةِ الخَلْقِيَّةِ البَيْلُوجِيَّةِ فَقَط، وَمِنْهَا المَعْنَوِىُّ الَّذِى يَتَعَلَّقُ بِالنَّاحِيَةِ الخُلُقِيَّةِ السُّلُوكِيَّةِ. وَأَصْلُ الدَّوافِعِ هِىَ الحَاجَاتُ. فَالحَاجَةُ هِىَ الَّتِى تَدْفَعُ إِلَى الحَرَكَةِ لإِشْبَاعِهَا، كَدَافِعِ الجُوعِ البَيْلُوجِىِّ مَثَلاً؛ هُوَ الَّذِى يَدْفَعُ صَاحِبَهُ لِلحَرَكَةِ لإِشْبَاعِ هّذَا الجُوعِ، ثُمَّ تَأتِى مَجْمُوعَةٌ أُخْرَى مِنَ الدَّوافِعِ لِتُنَظِّمَ حَرَكَةَ إِشْبَاعِ الجُوعِ، كَالدَّافِعِ السُّلُوكِىِّ لِتَحْقِيِقِ الذَّاتِ وَالاعْتِدَادِ بِهَا، الَّذِى سَيَدْفَعُ إِلَى حَرَكَةٍ رَاقِيَةٍ لإِشْبَاعِ الجُوعِ، كَأَنْ يَطْلُبَ العَمَلَ المُسْتَقِيِمَ. فَإِذَا مَا تَعَمَّقَ دَافِعُ تَحْقِيِقِ الذَّاتِ أَكْثَرَ، فَسَيَدْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى طَلَبِ التَّرَقِّى أَكْثَرُ، لِيَكُونَ العَمَلُ أَكْثَرَ رِفْعَةً،…وَهَكَذَا.

3 ـ مِنْ هَذِهِ الاحْتِيَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ نَشَأ ـ كَمِثَالٍ ـ دَافِعُ التَمَلُّكِ، الَّذِى يُؤَمِّنُ بِدَوْرِهِ هَذِهِ الاحْتِيَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةَ، كَالجُّوعِ، وَالعَطَشِ، وَالخَوْفِ، وَذَلِكَ بِتَوْفِيِرِ المَطْعَمِ، وَالمَشْرَبِ، وَالمَسْكَنِ، وَالكِسَآءِ،..الخ. وَلَكِنْ عِنْدَمَا يَرْتَقِى الإِنْسَانُ سُلُوكِيًّا تَتَغَلَّبُ احْتِيَاجَاتُهُ الخُلُقِيَّةُ عَلَى احْتِيَاجَاتِهِ الخَلْقِيَّةِ. فَنَجِدُهُ يُضَحِّى بِبَعْضِ مَا يَمْلُكُ، أَوْ كُلُّهُ، بِرَغْمِ أَنَّهُ يُؤَمِّنُ لَهُ احْتِيَاجَاتَهُ الخَلْقِيَّةَ، لِكَىّ يُشْبِعَ احْتِيَاجَاتَهُ الخُلُقِيَّةَ، كَأَنْ يَهَبُ مَا يَمْلُكُ لِغَيْرِهِ لإِشْبَاعِ مَشَاعِرِ سُلُوكِ الحُبِّ وَالشَفَقَةِ، وَالعَطْفِ..الخ، أَوْ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَا يَمْلُكُ أَوْ بِنَفْسِهِ فِى سَبِيِلِ اللهِ،..الخ، لإِشْبَاعِ رَغْبَةِ سُلُوكِ الحُبِّ، وَالقُرْبِ، والطَّاعَةِ، تَحْصِيِلاً لِلرِّضَا المَعْنَوِىِّ.

كَذَلِكَ إِذَا مَا انْحَطَّ الإِنْسَانُ سُلُوكِيًّا تَتَغَلَّبُ احْتِيَاجَاتُهُ الخُلُقِيَّةُ عَلَى احْتِيَاجَاتِهِ الخَلْقِيَّةِ. فَنَجِدُهُ يُضَحِّى بِبَعْضِ مَا يَمْلُكُ، أَوْ كُلُّهُ، لِكَىّ يُشْبِعَ احْتِيَاجَاتَهُ الخُلُقِيَّةَ، كَأَنْ يَهَبُ مَا يَمْلُكُ لِغَيْرِهِ لِتَمْويِلِ طَائِفَتِهِ المُنْحَطَّةِ مِثْلَهُ، أَوْ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَا يَمْلُكُ أَوْ بِنَفْسِهِ فِى سَبِيِلِ هَوَاهُ، وَحَسَدِهِ..الخ، لإِشْبَاعِ رَغْبَةِ سُلُوكِ الكُرْهِ، والشَّرِّ الَّذِى يَتَمَلَّكَهُ، تَحْصِيِلاً لِلرِّضَا المَعْنَوِىِّ.

4 ـ نَسْتَطِيِعُ أَنْ نَقُولَ أَنَّهُ مِنْ الدَّوافِعِ الأَسَاسِيَّةِ المَعْنَوِيَّةِ الخُلُقِيَّةِ الَّتِى تُحَرِّكُ الإِنْسَانَ دَافِعُ الحُبِّ، وَدَافِعُ الكُرْهِ. وَيَبْذُلُ الإِنْسَانُ حَيَاتَهُ أَحْيَانًا فِى سَبِيِل هَذِهِ الدَّوَافِعِ الخُلُقِيَّةِ السُّلُوكِيَّةِ، كَمَا يَبْذُلُهَا أَحْيَانًا أُخْرَى فِى سَبِيِل الدَّوَافِعِ الخَلْقِيَّةِ المَادِّيَّةِ. وَلنُطَبِّقَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الأَيَاتِ الَّتِى جَآءَت فِى مَوْضُوعِ الحَسَدِ.

5 ـ فَعِنْدَمَا هَبَطَ فَريِقُ ءَادَمَ وَفَرِيِقُ زَوْجِهِ إِلَى الأَرْضِ، وَقَعَت العَدَاوَةُ بَيْنَ النَّاسِ لاِخْتِلاَفِ المَشَارِبِ، وَالمَسَالِكِ: “وَقُلْنَا ٱهْبِطُوا۟ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّۭ ۖ”. هَذِهِ العَدَاوَةُ هِىَ مِنَ الدَّوافِعِ السُّلُوكِيَّةِ الخُلُقِيَّةِ، وَصَحِبَهَا البَغْضَآءُ، وَأَثَّرَت فِى السُّلُوكِ.

6 ـ وَمِنَ المُلاَحَظِ مِنْ نُصُوصِ الذِّكْرِ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ أَكْثَرُهُم فَاسِقُونَ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيِهِم فِى مَوْضِعٍ ءِاخَرٍ، مُبَيِّنًا حَالَهُم:

“..وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ لَكَانَ خَيْرًۭا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ ﴿١١٠﴾” ءَالِ عِمْرَان.

وَبِالتَّالِى فَقَدْ تَوَفَّرَ لِهَذِهِ الكَثْرَةِ مِنَ الأَسْبَابِ مَا يَجْعَلُهُم عَدُوٌّ لِلمُؤْمِنِيِنَ، وَمِنَ الكَارِهِيِنَ الحَاسِدِيِنَ لَهُم.

7 ـ أَنَّ هَذِهِ الكَثْرَةَ الفَاسِقَةَ، تَعْرِفُ أَنَّ الكِتَابَ المُنَزَّلَ عَلَى المُؤْمِنِيِنَ، هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَهُمْ ـ كَمَا أَسْلَفْنَا ـ لاَيُرِيِدُونَ وَلاَ يُحِبُّونَ الخَيْرَ لِغَيْرِهِم، وَبِالتَّالِى فَمِنَ المُفْتَرَضِ أَنْ يَدْفَعَهُم ذَلِكَ إِلَى حَسَدِ المُؤْمِنِيِنَ وَتَمَنِّى أَلاَّ يَنْزَلَ عَلَيْهِم هَذَا الخَيْرَ مِنْ رَبِّهِم، وَهُوَ مَا جَآءَ بِهِ النَّصُّ الحَكِيِمُ فِعْلاً:

“مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَلَا ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ …﴿١٠5﴾” البَقَرَةُ.

“وَدَّ كَثِيرٌۭ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًۭا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ ۖ..﴿١٠٩﴾” البَقَرَةُ.

8 ـ إِلَى هُنَا وَالحَسَدُ لَمْ يَتَوَلَّد شَرُّهُ بَعْدُ، وَلَمْ يَنْتَقِل إِلَى مَرْحَلَةِ الفِعْلِ، وَلِذَا طَلَبَ اللهُ تَعَالَى مِنَ المُؤِمِنِيِنَ أَنْ يَسْتَعِيِذُوا بِهِ مِنْ هَذَا الشَرُّ المُحْتَمَلِ:

“قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ ﴿١﴾…..وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿٥﴾” الفَلَق.

تَطْويِرِ الحَسَدِ:

9 ـ عِنْدَمَا يَجِدُ الفُسَّاقُ أَنَّ حَالَ المُؤْمِنِيِنَ فِى تَقَدُّمٍ وَازْدِهَارٍ يَأخُذُ الغَيْظُ مِنْهُم كُلَّ مَأَخَذٍ، فَيَبْدَأُ الفُسَّاقُ الحَرَكَةَ بِتَفْعِيِلِ الحَسَدِ، وَنَقْلَ الوُدِّ إِلَى حَيِّزِ الوَاقِعِ (وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ)، فَيَبَدَأونَ بِالأَخَفِّ، وَهُوَ الأَذَى، وَهُوَ مَا قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
“لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّآ أَذًۭى ۖ …﴿١١١﴾” ءَالَ عِمْرَان.
وَقَدَ نَقَلَ اللهُ بَيَان هَذَا الأَذَى، فَإِذَا هُوَ الكَيْدُ بِالمَكَائِدِ لِلتَّشْكِيِكِ فِى الدِّيِنِ، وَفِى نِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا ظَاهِرًا، ثُمَّ يَخْرُجُوا مِنَ الدِّيِنِ، وَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُقْنِعٍ، فَيَتَشَكَّكُ ضِعَافُ الإِيِمَانِ:
“وَقَالَت طَّآئِفَةٌۭ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ ءَامِنُوا۟ بِٱلَّذِىٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوٓا۟ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿٧٢﴾ وَلَا تُؤْمِنُوٓا۟ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىٰٓ أَحَدٌۭ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ۗ قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ وَ‌ٰسِعٌ عَلِيمٌۭ ﴿٧٣﴾ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِۦ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴿٧٤﴾” ءَال عِمْرَان.
وَنُلاَحِظُ الارْتِبَاطَ بَيْنَ فِعْلِهِم وَبَيْنَ دَافِعِهِم “وَلَا تُؤْمِنُوٓا۟ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ”.
10 ـ بَقِىَ ءَاخِرُ مَا فِى جُعْبَةِ الحَاسِدِ، وَهُوَ أَنْ يُقَاتِلَ المُؤمِنِيِنَ لِيَرُدَّهُم عَنْ دِيِنِهِم، فَيُحَوِّلُ الوُدَّ إِلَى وَاقِعٍ:
“إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا۟ لَكُمْ أَعْدَآءًۭ وَيَبْسُطُوٓا۟ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّوا۟ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴿٢﴾” المُمْتَحَنَة.
وَهَذَا تَكَفَّلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالَ:
“…وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٧﴾” الرُّوم.
وَبِالتَّالِى فَسَيَفْشَلُونَ فِى تَحْقِيِقِ مُقْتَضَيَاتِ حَسَدِهِم، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى مُكَمِّلاً الأَيَةِ:
“لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّآ أَذًۭى ۖ وَإِن يُقَـٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ﴿١١١﴾” ءَالَ عِمْرَان.

.هَذَا هُوَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ لِلحَاسِدِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَهُوَ كَمَا نَرَى:
أ ـ لاَ عِلاَقَةَ لَهُ بِالعَيْنِ.
ب ـ لاَ يُؤَثِّرُ عَنْ بُعْدٍ.
جـ ـ لاَ عِلاَقَةَ لَهُ بِالأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
د ـ لاَ يَنْجَحُ بِأَىِّ حَالٍ.

.11 ـ ثُمَّ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِى ءَاخِرِ سُورَة الحَدِيِدِ مَا هُوَ المَطْلُوبُ مِنَ المُؤْمِنِيِنَ لِكَى يُحَافِظُوا عَلَى نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِم (وَهِىَ هُنَا الدِّيِن)، وَلِكَى يَعْلَمُ الفَاسِقُونَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أَنَّ حَسَدَهُم، وَمَا تَبِعَهُ مِنْ تَفْعِيِلٍ بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ لَنْ يُؤَثِّرَ فِى فَضْلِهِ الَّذِى ءَاتَاهُ لِلمُؤْمِنِيِنَ؛ فَقَالَ:
“يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَءَامِنُوا۟ بِرَسُولِهِۦ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِۦ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًۭا تَمْشُونَ بِهِۦ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿٢٨﴾ لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍۢ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ ۙ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴿٢٩﴾” الحَدِيِد.

.فَيَا أَيُّهَا الَّذِيِنَ يَخَافُونَ مِنَ الحَسَدِ اعْلَمُوا أَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيِهِ مَنْ يَشَآءُ، وَيُحَافِظُ عَلَىَ هَذَا الفَضْلِ أَنْ تَتَّقُوا، وَتَكُونُوا مُؤْمِنِيِنَ بَالرَّسُولِ، لاَ أَنْ تَقُومُوا بِتَحْوِيِلِهِ إِلَى الأَمْتِعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَتَجْعَلُوهُ مَخْصُوصٌ بِالعَيْنِ، وَتَفْتَرُونَ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ بِذَاتِهِ، ثُمَّ تَلْصِقُونَ ذَلِكَ بِالرَّسُولِ.

سَنَنْتَقِلُ الأَنَ إِلَى جَانِبٍ ءَاخَرٍ مِنَ الكِتَابِ، وَهُوَ جَانِبُ الحِكْمَةِ.

المُؤْمِنُ بِأَنَّ الحَسَدَ يُؤَثِّرُ فِى فَضْلِ اللهِ؛ فَيَمْنَعُ مَا يُعْطِيِهِ اللهُ لِعِبَادِهِ، وَيُمْرِضُهُم، وَيَقْتُلُهُم، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُم، وَيُؤَثِّرُ فِى أَرْزَاقِهِم، لاَ يَعْرِفُ اللهَ جَيِّدًا، بَلْ إِنَّ تَصَوُّرَهُ لِلرَّبِّ الإِلَهِ سَقِيِمٌ.

وَإِذَا مَا نَظَرْنَا فِى كِتَابِ الحِكْمَةِ مِنَ القُرْءَانِ فَسَنَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرِّفُ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ، كَىْ يَعْبُدُوهُ عَلَى حَقٍّ، وَعَلَى عِلْمٍ، فَيُبَيِّنَ لَهُم أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيِدُ.

وَلَفْظُ الإرَادَةِ بِمَفْهُومِنَا البَشَرِىّ يَعْنِى قَصْدٌ مُبَرَّرٌ، لِطَلَبِ الشَيْءِ بِقَنَاعَةٍ، لِدَافِعٍ أوْ لِحَاجَةٍ (1)، مَع العَزْمِ عَلَيْهِ. وَكُلُّ هَذَا هُوَ بخِلافِ إرَادَةِ اللهِ تَعَالَي. فَاللهُ تَعَالَي هُوَ الصَمَدُ، المُسْتَغَني عَن غَيْرهِ، لاَ يَحْتَاجُ لِشَيءٍ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لُيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْئٌ، وَبالتَالِي فَإرَادَتَهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثلِهَا إرَادَةٌ، وَسَابقَةٌ لِكِلِّ شَيْءٍ، وَكُلِّ خَلْقٍ. وَهِىَ الإطَارُ الجَامِعُ الكُلِّىُّ، لِلمَشِيئَةِ، وَالقَضَاءِ، وَالْقَدَرِ. وَيَتَنَاولُ الجَمِيعُ الخَلْقَ وَالأَمْرَ: “أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ”. وَبالتَالِي فَإنَّ الإرَادَةَ هِيَ السَابِقَةُ، وَالحَاكِمَةُ، والمُحَدِّدَةُ (إذَا مَا فَهِمْنَا أنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا أنَّ مَا يُرِيدَهُ يَجِبُ وَحَتْمًا أَنْ يَكُونَ:

“. . إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿١٤﴾” الحج.

“. . إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌۭ لِّمَا يُرِيدُ ﴿١٠٧﴾” هود.

وَإرَادَةُ اللهِ ـ كَمَا اسْتَقْرَأتُهَا بِكِتَابِ اللهِ ـ هِي أَنْ يَرَى البَصِيرُ، الحَكِيمُ، العَلِيمُ، شَيْئًا أَوْ أَمْرًا مَا، عَلَي أنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ ـ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ مِلْيَارَاتِ السِنِين ـ، وَانْظُر إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:

“إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿١٤﴾” الحج.

تَجِدُ أنَّ أمْرَ دُخُولِ الجَنَّةِ قَدْ أرَادَهُ اللهُ تَعَالَى مُنْذُ مِلْيَارَاتِ السِنِينِ الَّتِى لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ. مِن هُنَا نَفْهَمُ أَنَّ إِرَادَتَهُ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَيَ ـ لَيْسَت كَإرَادِةِ المَخْلُوقِ تَحْكُمُهَا الدَوَافِعُ، وإنَّمَا هِىَ أسْمَائُهُ الحُسْنَي، وَكَفَي بهَا حُسْنًا (2).

فَإِذَا مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ فَلْنَعْلَمَ أَيْضًا أَنَّ كُلُّ مَا فِى هَذَا الكَوْنِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَكُلُّ مَا يجْرِى عَلَى هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ مِنْ أحْدَاثٍ هُوَ تَبَعٌ لإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَبِالتَالِى فَإنَّ إرَادةَ اللهِ تَعَالَي إمَّا أنْ تَتَنَاولَ شَيئًا غيرُ موجودٍ، فَيَكُونَ، وَبالتَالِي فَهيَ إرَادَةُ خَلْقٍ، أَوْ أَنْ تَتَنَاوَلَ شَيْئًا خَاصًّا بالمَخْلُوقِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ حَادِثٍ؛ فَيَحْدُث؛ وَبالتَالِي فَهيَ إرَادَةُ أمْرٍ.

فِإذا أرادَ اللهُ تعالي شيئًا أنْفَذَهُ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ ـ أَيْضًا ـ إِلاَّ بِقَدَرٍ، وَسُنَنٍ، وَكَلِمَاتٍ، وَيَخْدِمُ ذَلِكَ ءَالِيَّاتٍ عِدَّةٍ، كَالإمْلاَءِ، وَالاِسْتِدْرَاجِ، . . الخ. إذًا فَقَدْ أرَادَ اللهُ تَعَالَى أنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ (المُؤَقَّتِ) هَذَا سُنَنًا تُسَيِّرَهُ، وَكَلِمَاتٍ تَحْكُمَهُ، فَأَمَّا السُنَنُ؛ فَهِىَ كَالقَوَالِبِ الَّتِى يَجِبُ أنْ تَمُرَّ الأحْدَاثُ بِهَا، وَأَمَّا الكَلِمَاتُ؛ فَهِىَ تَرْجَمَةُ السُنَنِ، إلَى أحْدَاثٍ عَلَى أرْضِ الوَاقِعِ، فَهِىَ ءَالِيَّاتُ تَنْفِيِذِهِ.

وَالمَشِيِئَةُ هِىَ وَجْهُ تَحَقُّقِ الإِرَادَةِ، وَتَتَرَاوَحُ مَا بَيْنَ الإيِجَابِ والسَلْبِ:

وَإذا مَا تَأمّلنَا هَذَا الكَونِ المَنْظُورِ فَسَنَجِدُ أنَّهُ مَا بَيْنَ مَخْلُوقَاتٍ، وبَيْنَ تَسْييرٍ لِهَذِهِ المَخْلُوقَاتِ. وَالمَخْلُوقَاتُ مَا بَيْنَ كَائِنٍ حَيٍّ، وَغَيْرِ حَيٍّ. وَالكُلُّ عِبَارَةٌ عَنْ مَادَّةٍ (3) وِفْقَ نِظَامٍ (وَهَذَا النِظامُ هُوَ الَّذِي يُعْطِي المَخْلُوقَ مَعَالِمَهُ وَحُدُودَهُ). ثُمَّ يَأتِي دَوْرُ التَسْيير، أَوْ الأَمْر. وَالكُلُّ (سَوَاء الخَلْق، أَوْ الأَمْر) تَبَعٌ لإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَي، القَائِل عَن نَفْسِهِ: “أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ”.

وَالمَشِيئَةَ تَتَعَلَّقُ بالوُجُودِ وَالعَدَمِ مِن زَاويةِ الإرَادَةِ السَابقَةِ، وَالَّتِي حَدَّدَت مَا يَجِب أَلاَّ يَكُون، وَمَا يَجِبُ أنْ يَكُونَ، وَقَوَانِينَ هَذِهِ الكَيْنُونَةِ. وَبالتَالِي فَإنَّ كُلَّ مَا هُوَ فِي حُكْمِ العَدَم فَقَدْ خَضَعَ لِلإرَادَةِ، وَانْعَدَمَت فِيهِ المَشِيئَةُ، وَيَأتِي النَصُّ فِيهِ بقولِهِ تَعَالَي: “وَلَوْ شَآءَ اللهُ” أَىّ أَنَّهُ لَم يَشَأهُ. وَكُلَّ مَا هُوَ فِي حُكْمِ المَوْجُودِ فَهُوَ خَاضِعٌ لِلإِرَادَةِ، وَيَشَاءُ اللهُ فِيهِ مَا يَشَاءُ. وبِذَلِكَ نَستطيعُ القَولَ بأنَّ تَقَدّمَ الإرادةِ حَاكِمٌ، وأنَّ المشيئةَ هِىَ تَعبيرٌ عَن حُدُودِ الإرادةِ، وما سَبَقَ إقرارهُ مِن سُنَنٍ، وضوابطٍ.

فَإِذَا عَلِمْنَا مَا سَبَقَ فَلْنَعْلَمَ أَيْضًا أَنَّ مَشِيِئَةَ اللهِ تَتَغَلْغَلُ فِي كُلِّ النَوَاحِي وَالمَنَاحِي، حَيْثُ سَنَجِدُ أنَّ اللهَ تَعَالَي: يُقَرِّرُ لِمَن يَشَاءُ مِنَ النَّاس: خِلقَتَهُ، وَخَرْقَ نَوَامِيسِ خَلْقِهِ، وَصُورَتَهُ الَّتِي سَيَخْرُجُ لِلحَيَاةِ بِهَا، وَرزْقَهُ، وَهِدَايتَهُ، وَإضْلاَلَهُ، وَإتيَانَهُ المُلْكَ، وَنَزْعَهُ مِنْهُ، وَإيتَاءَهُ الحِكْمَةَ، وَحِرْمَانَهُ مِنْهَا، وَنَصْرَهُ، وَإِعْزَازَهُ، وَإِذْلاَلَهُ، وَإِهَانَتَهُ، وَتَوْريثَهُ الأَرْضَ، وَتَمْكِينَهُ مِنْهَا، وَرَحْمَتَهُ، وَغُفْرَانَهُ لَهُ، وَمَا يُصِيبَهُ مِنَ الكَوَارثِ الطَبِيعِيَّةِ (كَالصَوَاعِقِ وَالأَعَاصِيرِ، وَالجَفَافِ، وَالسُيُولِ)، وَتَزْويجَهُ، وَرِزْقَهُ بِالذُكُورِ أوْ الإِنَاثِ، أَوْ العُقْمِ. كَمَا يُقَرِّرُ سُبْحَانَهُ إرْسَالَ رُسُلَهُ عَلَي مَنْ يَشَاءُ، وَيَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمَسُّ بالضُرِّ، وَيَكْشِفَهُ عَمَّن يَشَاءُ، ويُمْرضُ، وَيُشْفِي، وَيُريدُ بالخَيْرِ، وَيُسَلِّطُ فِرْقَةً عَلَي أُخْرَي، وَيَشَاءُ وُقُوعَ الاقْتِتَال بَيْنَ الفُرَقَاءِ، ..الخ!

نستطيع الأن أن نقول أنَّنا أمامَ إلهٍ يُمسكُ بمقاليدِ الأمورِ، ولا تغيبُ عنهُ غائبةٌ، وَعَلَي كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ:

“لَهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۭ ﴿١٢﴾” الشُّورَى.

وَرَاجِع: مَشِيئَةُ الخَلْقِ: المَائِدَةُ 17، وَالقَصَصُ 68. مَشِيئَةُ تَغْيير ناموس الخَلْقِ: ءَال عمران 40، 47. مَشِيئَةُ التصويرِ: الانفطار 6 ـ 8. مَشِيئَةُ الرزقِ: الإسراء 30. مَشِيئَةُ الهُدى: يونس 25. مَشِيئَةُ الإضلال: إبراهيم 4. مَشِيئَةُ الإسماعِ: فاطر 22. مَشِيئَةُ إيتاء المُلك: البقرة 247. مَشِيئَةُ نزع المُلك: ءال عمران 26. مَشِيئَةُ إيتاء الحِكمة: البقرة 269. مَشِيئَةُ النصر: ءال عمران 13، الروم 5. مَشِيئَةُ الإعزاز: ءال عمران 26. مَشِيئَةُ توريث الأرض: الأعراف 128. مَشِيئَةُ التزكيةِ: النساء 49، النور 21. مَشِيئَةُ الإذلال: ءال عمران 26، الحج 18. مَشِيئَةُ الرحمة: البقرة 105. مَشِيئَةُ المغفرة: ءال عمران 129، التوبة 15. مَشِيئَةُ الرزقِ بالأولادِ: الشورى 49. مَشِيئَةُ الكوارث والعطايا الطبيعية: الرعد 13، النور 43. مَشِيئَةُ العُقمِ: الشورى 50. مَشِيئَةُ المسّ بالضرِّ: يونس 107. مَشِيئَةُ الإرادةِ بالخيرِ: يونس 107. مَشِيئَةُ العُقمِ: الشورى 50. مَشِيئَةُ المسّ بالضرِّ: يونس 107. مَشِيئَةُ الإرادةِ بالخيرِ: يونس 107.مَشِيئَةُ تسليط رسلِهِ: الحشر 6. مَشِيئَةُ تسليط فرقة علي أُخري: النساء 90. مَشِيئَةُ الاقتتال: البقرة 253. مَشِيئَةُ قتل المُشركين أولادهم: الأنعام 137.

هَكَذَا يَجِبُ أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ المَشِيئَةِ، وَنَفْهَمَ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ بيَدِ اللهِ تَعَالَي، وَأَنَّ مَا يَحْدُث حَوْلَنَا مِن أُمُور يَحْسَبُهَا النَّاسُ تِلْقَائِيَةٍ هِيَ في حَقِيقَةِ الأَمْرِ مُرَتّبةٍ، وَمَقْصُودَةٍ، وَيَحْكُمُهَا القَدَرُ، وَالاسْتِجَابَةُ، وَالاسْتِحْقَاقُ، وَلَيسَ هَذَا فَقَط، وَإنَّمَا امْتَدَّ الأَمْرُ إلَي أنَّ مَشِيئَةَ الإِنْسَانِ لاَ تَنْفَذ إلاَّ إذَا شَاءَ اللهُ تَعَالَي لَهَا ذَلِكَ، وَقَدْ أثْبَتَ اللهُ تَعَالَي هَذِهِ الحَقَائِق فِي كِتَابِهِ لِيَحْسَبَ النَّاسُ لَهَا حِسَابًا، وَيَعْمَلُونَ عَلَي أَسَاسِهَا، وَيَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ مَا يَدُورُ حَوْلَهُم. فَكُلّ مَنْ لاَ يَرَي هَذِهِ الحَقَائِق الَّتِي أَثبَتَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ ذلِكَ فَلاَ يَلُومَنّ إلاَّ نَفْسَهُ. وَسَنَعْلَمُ فِي السُطُورِ القَادِمَةِ أَنَّ التَحَكُّمَ وَالتَأثير يَحْدُث عَلَي مُسْتَوى كِيمْيَاء الخَلِيِّةِ، حَتَّى يَصِلُ المَخْلُوقُ لِمَا يُريدُهُ اللهُ تَعَالَي لَهُ.

شَخْصُ الحَاسِدِ:

يُعْرَفُ الحَاسِدُ عِنْدَ المُتَأَخِّرِيِنَ بَأَنَّهُ شَخْصٌ ذُو مُوَاصَفَاتٍ خَاصَّةٍ تُمَيِّزَهُ عَنِ الأَخَرِيِنَ؛ فَهُوَ حَقُودٌ، يَذْهَبُ بِهِ حِقْدُهُ إِلَى تَمَنِّى زَوَالِ النِعَمِ عَنْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ لِفَقْرِهِ، أَوْ لِسُوءِ طَوِيَّتِهِ وَمَرَضِ قَلْبِهِ، وَيَتَمَيَّزُ بِأَنَّ لَهُ مَقْدِرَةً خَفِيَّةً عَلَى إِيِقَاعِ الضَرَرِ بِالمَحْسُودِ، فَهُوَ إِذَا نَظَرَ إِلَى جَمَادٍ أَتْلَفَهُ، خَاصَّةً إِذَا مَا كَانَ قَابِلاً لِلكَسْرِ، وَإِذَا مَا نَظَرَ إِلَى مَوْفُورِ الصِّحَّةِ أَمْرَضَهُ، وَإِلَى الغَنِىِّ أَفْقَرَهُ، حَتَّى أَنَهُ يُمِيِتُ بِعَيْنِهِ.

المُحَصَّلَةُ النِّهَائِيَّةُ هِىَ أَنَّ اللهَ يُنْعِمُ وَالحَاسِدُ يَمْنَعُ، وَاللهُ يَرْزُقُ، وَالحَاسِدُ يُذْهِبُ بِالرِّزْقِ، حَتَّى المُجْتَهِدِيِنَ مِنَ النَّاسِ كَالعَبَاقِرَةِ والمُتَفَوِّقِيِنَ الَّذِيِنَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى أَغْبِيَآءٍ وَمُتَخَلِّفِيِنَ يُمْكِنُهُ إِذًا أَنْ يُمْرِضَهُم أَوْ يَتَسَبَّبُ لَهُم فِى الحَوَادِثِ أَوْ المَوْتِ…الخ!!!!!

هَكَذَا أَضْحَى مَنْ يَقُولُونَ أَنَّهُم يُؤْمِنُونَ بِاللهِ؛ يُؤْمِنُونَ بِالحَسَدِ وَالحَاسِدِ، وَأَصْبَحَ الحَاسِدُ جُزْءًا مِنَ القَدَرِ، وَمُؤَثِّرًا فِى الأَقْدَارِ، حَتَّى أَنَّ اللهَ يَرْزُقُ فَيَمْنَعُ هُوَ. وَاللهُ يَمْنَحُ فَيَمْنَعُ هُوَ.

يَا إِلَهِىَ العَظِيِمُ سُبْحَانَكَ

وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.

لَوْ عَلِمَ هَؤُلآءِ أَمْرَ اللهَ جَيِّدًا، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِنْ قَضَآءٍ وَقَدَرٍ لَمَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا!!

وَإِذَا مَا نَظَرْنَا فِى كِتَابِ الحِكْمَةِ مِنَ القُرْءَانِ فَسَنَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ يُعَرِّفُ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ، كَىْ يَعْبُدُونَهُ عَلَى حَقٍّ، وَعَلَى عِلْمٍ، فَيُبَيِّنُ أَنَّ أمْرَهُ تَعَالَي هُوَ الصِيغَةُ الوَاقِعِيَّةُ لِتَحْقِيق إِرَادَتِهِ، بِمَعْنَى تَدْبِيرِ أَمْرِ الكَوْنِ، وَالخَلْقِ، وَالأَحْدَاثِ، تَحْقِيقًا لإرَادَتِهِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا الأَمْرُ مِنْهُ مَا يُقْضَى بقَدَرٍ وَقَدْر، وَيُودَعُ فِي كِتَابِ الزَمَنِ، وَكُلَّمَا حَانَ مَوْعِدُ أمْرٍ مَا مِمَّا قَضَاهُ اللهُ تَعَالَي حَدَثَ هَذَا الأَمْرُ عَلَي الوَجْهِ الَّذِي أرَادَهُ اللهُ تَمَامًا. فَلاَ يَدْخُلُ الحَسَدُ فِى مَنْظُومَةِ الأَمْرِ بِحَالٍ، وَأَيْضًا لاَ يُفْسِدَهُ.

هَذَا وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالىَ أنَّ مِسَاحَةَ الأَمْر تَشْمَلُ كُلَّ مُلْكِهِ؛ فَقَالَ:

“ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـٰوَ‌ٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا ﴿١٢﴾” الطلاق.

فَيَا أَيُّهَا الخَائِفُ مِنَ الحَسَدِ بِذَاتِهِ، وَمِنَ العَيْنِ، أَنْ تَمْنَعَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْكَ لاَ تَخَف، فَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيِرٍ، وَاَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

وَلِأَمْرِ اللهِ مُفْرَدَاتُهُ مِنْ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ، وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بإنْفَاذِ الإِرَادَةِ كَأَمْرٍ للهِ تَعَالَي. فَإذَا كَانَ القَضَاءُ لِحَدَثٍ؛ تَرتَّبَت الظُرُوفُ كُلُّهَا لِتَأخُذَ الحَدَثَ فِي الوجْهَةِ الَّتِي يُريدُهَا اللهُ تَعَالَي، وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ خَرْقٌ لِقَانُونٍ سَابقٍ (4)، وَلا قضاءٌ بدونِ قَدَر،

وَالقَدَرُ حَاكِمٌ عَلَيَ كُلِّ شَيءٍ، وَإعْلاَنٌ وَإعْلاَمٌ بالسيطرةِ، والقوّةِ، والقُدْرَةِ، والتَحَكُّمِ، وَمِنْ ثَمّ فَإنَّه لاَ شَيءَ مَهْمَا دَقَّ أَوْ صَغُرَ هُوَ خَارجُ الحِسَابَاتِ وَالسَيْطَرَةِ. وَفِي ذَلِكَ يَقُوُلُ تَعَالَيَ:

“إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍۢ ﴿٤٩﴾” القمر.

“..وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَرًۭا مَّقْدُورًا ﴿٣٨﴾” الأحزاب.

وداخلُ القَدَرِ يَتَمَوْقَعُ القَدْرُ، فَالقَدْرُ هُوَ مَصْفُوفَةٌ (كَمِّيِّةٌ) صُغْرَى خَاصَّةٌ بتَفَاصِيلِ المَخْلُوقِ، مُهِمَّتُهَا هِىَ التَخْصِيصُ، وَتَقَعُ ضِمْنَ القَدَر، كَمَصْفُوفَةٍ أكْبَر خَاصَّةٍ بالخَلْقِ وَالأَمْرِ:

“..قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍۢ قَدْرًۭا ﴿٣﴾” الطلاق.

إذًا فالقَدَرُ تَخْطِيطٌ، والقَدْرُ تَحْدِيدٌ:

“..وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُۥ بِمِقْدَارٍ ﴿٨﴾” الرعد.

وَ: “قَدَرُ اللهِ”، تَعْنِي “التَخْطِيطُ بِإحَاطَةِ عِلْمٍ + القُدرةُ المُطْلَقة”، فَيَأتى الوَاقِعُ مُتَطَابِقًا لِمَا خُطِّطَ لَهُ تَمَامًا، لا يَنْحَرِفُ عَنْهُ قَيدَ أُنْمُلَةٍ.

وَ: “قَدْر” (بِسِكُونِ الدَال)، تَعْنِي “تَحْدِيدًا وَمَنْزِلَةً”، فَتَأتى الأقْدَارُ (كَمْيَّةً، وَمُحَدَّدَةً زَمَانًا، وَمَكَانًا، وَمُوَاصَفَاتًا) بالمَقَادِير الَّتِى قُدِّرَت بالتَّمَام والكَمَال. وَلِنُطَالِعُ بَعضَ الأيَاتِ لتَوْسِعَةِ المَدَارِك؛ يَقُولُ تَعَالَىَ لِمُوسَى:

“..ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍۢ يَـٰمُوسَىٰ ﴿٤٠﴾” طَهَ.

مُوسَى كَانَ يَظُنُّ شَيْئًا ءَاخر، انْظُر:

“وَهَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ ﴿٩﴾ إِذْ رَءَا نَارًۭا فَقَالَ لِأَهْلِهِ ٱمْكُثُوٓا۟ إِنِّىٓ ءَانَسْتُ نَارًۭا لَّعَلِّىٓ ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًۭى ﴿١٠﴾ فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِىَ يَـٰمُوسَىٰٓ ﴿١١﴾ إِنِّىٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًۭى ﴿١٢﴾” طَهَ.

بَل إنَّ كُلَّ حَيَاةِ مُوسَى كَانَ مُخَطَّطٌ لَهَا، انْظُر:

“وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿٧﴾” القصص.

الرِزْقُ بِقَدَر، وَالحَيَاةُ بِقَدَر، والمَوْتُ بِقَدَر، وَالنَصرُ بِقَدَر، حَتَّى الزَوَاجُ بِقَدَر، والحَملُ بِقَدَر، وَجِنسِ المَوْلُوُدِ بِقَدَر، وَالعُقْمُ بِقَدَر، اُنْظُر:

“لِّلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـٰثًۭا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ ﴿٤٩﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًۭا وَإِنَـٰثًۭا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۭ قَدِيرٌۭ ﴿٥٠﴾” الشورى.

وَكُلّ مَا سَبَق يَنْتَظِمُهُ عَلَىَ المُسْتَوَى الشَخْصِىّ قَدْرٌ دَاخِل القَدَر.

فَيَا أَيُّهَا الَّذِى تُؤْمِنُ بِأَنَّ الحَاسِدَ يُذْهِبُ بِمَا أَتَى اللهُ بِهِ وَقَدَّرَهُ، وَقَضَاهُ مِنْ أَمْرِهِ، اعْلَم أَنَّ لَكَ رَبًّا لَهُ مَقَالِيِدُ الأُمُورِ، يُرِيِدُ، وَيَشَآءُ، وَيَقْضِى، وَيُقَدِّرُ، فَلاَ يَتَجَاوَزُ شَيْءٌ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَلاَ يَتَدَخَّلُ فِىِ مُلْكِهِ لاَ حَاسِدٌ وَلاَ سَاحِرٌ وَلاَ مَخْلُوقٌ كَائٍنًا منْ كَاَنَ.

وَاعْلَم أَيْضًا أَنَّكَ عَلَى الجَانِبِ الخَطَأِ فِى فَهْمِ القُرْءَانِ، وَمَا جَآءَ بِهِ مِنَ النُّورِ. فَالنَّاسُ قَبْلَ القُرْءَانِ كَانُوا فِى هَذِهِ الظُلُمَاتِ، يَحْسَبُونَ أَنَّ الحَاسِدَ لَهُ مِنَ القُوَّةِ الخَفِيَّةِ مَا يَجِبُ أَنْ يَرْهَبُوهَا، وَيَحْسَبُونَ لَهَا أَلْفَ حِسَابٍ، فَجَآءَ القُرْءَانُ لِيُعْلِمَكَ وَيُعَلِّمَكَ أَنَّ لِلكَوْنِ رَبًّا فَعَّالٌ لِمَا يُرِيِدُ، وَيُقَدِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرُهُ، وَيَقْدِرُ لِكُلِّ قَدَرٍ قَدْرُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، فَهُوَ مَنْ يَجِبُ أَنْ تَرْهَبَهُ، وَتَحْسِبُ لَهُ أَلْفَ حِسَابٍ لاَ المَخْلُوقُ، فَانْتَفِع بِالقُرْءَانِ رَحِمَكَ اللهُ، وَلاَ تُسْلِمُ أَمْرَكَ لِمَجْهُولٍ يُضَادُّ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَيُرِيِدُ أَنْ يَمْلأَ لَكَ رَأسَكَ بِالخُرَافَاتِ، فَتُشْرِكُ بِرَبِّكَ وَهْمًا وَخَيَالاً، وَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِيِنَ.

الحَسَدُ وَالاسْتِدْرَاجُ:

قُلْنَا إنَّ إرَادَةَ اللهِ تَعَالَي قَدْ تَتَنَاوَلُ حَدثًا، فَإذَا كَانَ ذَلِكَ تَهَيَأتُ الأحْوَالُ بِحَيثُ يَحْدُثُ هَذَا الحَدَثُ كَمَا أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَيَ، وَهُنَا يَأتِي دَوْرُ سُنَّةِ الإِحَاطَةِ، حَيْثُ تَعْمَلُ عَلَي إِنْفَاذِ إِرَادَةِ اللهِ بالطَرِيقَةِ الَّتِي يُريدُهَا سُبْحَانَهُ، حَيْثُ يَتِمُّ التَحَكُّمُ فِي إِرَادَةِ المُخَيَّر، لِيَفْعَلَ المَطْلُوبَ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَدْمِيرَهُ. فَعِنْدَمَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَي ـ مَثَلاً ـ أَنْ يُهْلِكَ فِرْعَوْنَ جَعَلَهُ قَيْدَ سُنَّةِ الإِحَاطَةِ ـ لاَ القُدْرَةِ فَقَط ـ، فَجَعَلَهُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقْتُلُ أبْنَاءَ بَنِي إسْرَائِيل يَقُومُ بِإنْقَاذِ مُوسَى، وَيَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ، وَتَنْشِئَتِهِ، حَتَّىَ كَبُرَ فَأَهْلَكَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَي يَدَيْهِ:

“أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِى ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِى ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّۭ لِّى وَعَدُوٌّۭ لَّهُۥ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةًۭ مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِىٓ ﴿٣٩﴾” طَهَ.

“قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًۭا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾” الشُّعَرَآء.

فَالإحَاطَةَ هِيَ الكَيْفِيَّةُ البَعِيدَةُ التَصَوُّر لتَنْفِيذِ أمْرِ اللهِ تَعَالَي، وَالَّتِي يُجَسِّدُهَا قَولُهُ تَعَالَي:

“هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا۟ ۖ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا۟ ۖ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُوا۟ يَـٰٓأُو۟لِى ٱلْأَبْصَـٰرِ ﴿٢﴾” الحشر.

فَنَجِدُ هُنَا أنَّ اللهَ تعالي لَمْ يُخَرِّب بُيُوتَ الَّذِينَ كَفَرُوا بأيْدِي المُؤْمِنِين فَقَط، وَإنَّمَا قَذَفَ الرُعْبَ فِي قُلُوبِهِم فَخَرَّبُوا بُيُوتَهُم بأيْدِيهم، وَلِذَا طَلَبَ اللهُ تَعَالَي مِن أُولِي الأَبْصَارِ أَنْ يَعْتَبِروا، وَيَعْلَمُوا أنَّ اللهَ تَعَالَي مُحِيطٌ بالكَافِرين، حَتَّى أنَّهُ تَعَالَي جَعَلَهُم المَفْعُولُ بهِ وَالفَاعِلُ بنَفْسِ الوَقْتِ:

“..وَٱللَّهُ مُحِيطٌۢ بِٱلْكَـٰفِرِينَ ﴿١٩﴾” البَقَرَة.

مِنْ هَذِهِ الإِحَاطَةِ يَأتِى الاسْتِدْرَاجُ. فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ الاسْتِدْرَاجَ عُقُوبَةً لِمَنْ يُكَذِّبُ بِحَدِيِثِهِ، وَعِنْدَمَا نَتَطَرَّقُ إَلَى مَسْأَلَةِ الحَسَدِ وَالسِّحْرِ وَمَا شَابَهَ سَنَجِدُ أَنَّ الجَانِبَ الأَكْثَرَ سَوَادًا هُوَ التَّكْذِيِبُ الضِمْنِىُّ بِأَيَاتِ اللهِ، فَقَدْ جَاءَت الأَيَاتُ تَتْرًا لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الرَزَّاقُ، وَهُوَ الَّذِى يُعْطِى، وَيَمْنَعُ، وَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُريِدُ، وَأَنَّ الأُمُورَ كُلَّهَا تَسِيِرُ وِفْقَ إِرَادَتِهِ، وَبِقَدَرِهِ، وَبِالقَدْرِ الَّذِى يُريِدُهُ تَعَالَى لَهَا. فَإِذَا نَصَّبَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ يَمْنَعَ، وَمَنْ يَتَدَخَّلَ فِى القَدَرِ فَيُفْسِدَهُ، أَوْ أَنْ يَجْعَلُونَهُ جُزْءًا مِنَ القَدَرِ دُونَ نَصٍّ عَلَيْهِ، فَقَدْ كَذَّبُوا بِالأَيَاتِ، وَسَيَتِمُّ اسْتِدْرَاجِهِم، بِأَنْ تَقَعَ بَعْضُ الأَقْدَارِ فِى الاتِّجَاهِ الَّذِى يَصْبُونَ إِلَيْهِ، فَتَزِيِدَهُم غَيًّا، وَتَوَرُّطًا، وَهِىَ لَمْ تَعْدُوُ أَنْ تَكُونَ قَدْرًا لِلهِ عِنْدَ المُؤِمِنِيِنَ، وَلَكِنَّهَا عِنْدَ المُكَذِّبِيِنَ هِىَ مُغَذِّيَةٌ لافْتِرَائِهِم عَلَى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ.

نَفْسُ الشَيْءِ يَحْدُثُ مَعَ السَّاحِرِ وَالعَرَّافِ وَكُلِّ مَنْ يَدَّعِى تَأثِيِرًا فِى قَدَرِ اللهِ وَفَضْلِهِ عَلَى النَّاسِ.

“وَٱلَّذِينَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿١٨٢﴾ وَأُمْلِى لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ﴿١٨٣﴾” الأَعْرَاف.

“فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٤٤﴾ وَأُمْلِى لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ﴿٤٥﴾” القَلَم.

يَقُوُلُ زَيْدٌ وَيَقُولُ عَمْرٌو: وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى نَقَلَ عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوب طَلَبَ الدُّخُولِ مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ.

أَلَيْسَ فِىِ ذَلِكَ دَلِيِلٌ عَلَى خَوْفِهِ مِنْ أَنْ يَحْسِدَ النَّاسُ أَوْلاَدَهُ مُجْتَمِعِيِنَ؟!

فَنَقُولُ وَالتَّوْفِيِقُ مِنَ اللهِ: انْظُر لِلأَيَةِ:

“وَقَالَ يَـٰبَنِىَّ لَا تَدْخُلُوا۟ مِنۢ بَابٍۢ وَ‌ٰحِدٍۢ وَٱدْخُلُوا۟ مِنْ أَبْوَ‌ٰبٍۢ مُّتَفَرِّقَةٍۢ ۖ وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ ۖ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ ﴿٦٧﴾” يُوسُف.

تَجِدُ فِيِهَا قَوْلُهُ: “وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ ۖ”، الَّذِى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُتَوَجَّسَ مِنْهُ قَدْ يَكُونَ مِنَ اللهِ، فَإِذَا مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الأَمْرَ نَافِذٌ لاَ مُحَالَةَ.

وَتَجِدُ فِيِهَا قَوْلُهُ: “إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ”.

وَالحُكْمُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِى وَاقِعَةٍ حَدَثَت، وَيَسْتَحِقُّ الأَمْرُ أَنْ يَحْكُمَ اللهُ تَعَالَى فِيِهَا. وَالوَاقِعَةُ هُنَا هِىَ إِيِذَاؤُهُم لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَم. فَيَعْقُوبُ يَخْشَى مِنْ أَنْ تَحُلَّ عَلَيْهِم نَازِلَةٌ بِمَا كَسَبَت أَيْدِيِهِم، وَغَذَّى عِنْدَهُ ذَلِكَ التَّوَجُّسِ طَلَبَ العَزِيِزِ (يُوسُف) مِنْهُم أَنْ يَأتُوا بِأَخٍ لَهُمْ مِنْ أَبِيِهِم، وَلْنُرَاجِعَ الأَيَاتِ السَّابِقَةَ عَلَى الأَيَةِ؛ وَفِيِهَا يَقُصُّ اللهُ تَعَالَى:

“وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا۟ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ ﴿٥٨﴾ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ٱئْتُونِى بِأَخٍۢ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّىٓ أُوفِى ٱلْكَيْلَ وَأَنَا۠ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ ﴿٥٩﴾ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِۦ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلَا تَقْرَبُونِ ﴿٦٠﴾ قَالُوا۟ سَنُرَ‌ٰوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَـٰعِلُونَ ﴿٦١﴾ وَقَالَ لِفِتْيَـٰنِهِ ٱجْعَلُوا۟ بِضَـٰعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا ٱنقَلَبُوٓا۟ إِلَىٰٓ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿٦٢﴾ فَلَمَّا رَجَعُوٓا۟ إِلَىٰٓ أَبِيهِمْ قَالُوا۟ يَـٰٓأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ ﴿٦٣﴾ قَالَ هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَـٰفِظًۭا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّ‌ٰحِمِينَ ﴿٦٤﴾ وَلَمَّا فَتَحُوا۟ مَتَـٰعَهُمْ وَجَدُوا۟ بِضَـٰعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ۖ قَالُوا۟ يَـٰٓأَبَانَا مَا نَبْغِى ۖ هَـٰذِهِۦ بِضَـٰعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ۖ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍۢ ۖ ذَ‌ٰلِكَ كَيْلٌۭ يَسِيرٌۭ ﴿٦٥﴾ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُۥ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًۭا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌۭ ﴿٦٦﴾ وَقَالَ يَـٰبَنِىَّ لَا تَدْخُلُوا۟ مِنۢ بَابٍۢ وَ‌ٰحِدٍۢ وَٱدْخُلُوا۟ مِنْ أَبْوَ‌ٰبٍۢ مُّتَفَرِّقَةٍۢ ۖ وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ ۖ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ ﴿٦٧﴾ وَلَمَّا دَخَلُوا۟ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ إِلَّا حَاجَةًۭ فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَىٰهَا ۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلْمٍۢ لِّمَا عَلَّمْنَـٰهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٦٨﴾”.

وَهُنَا مَسَائِلٌ عِدَّةٌ:

1 ـ فَيَعْقُوبُ عِنْدَمَا سَمِعَ مِنْ أَوْلاَدِهِ طَلَبَ القَائِمِ عَلَى التَجْهِيِزِ بِالكَيْلِ (وَهُوَ يُوسُفَ الَّذِى يَجْهَلُونَهُ) مِنْهُم أَنْ يَأتُوا بِأَخٍ لَهُم مِنْ أَبِيِهِم، وَتَوَدُّدَهُ لَهُم، وَوَعْدَهُ بِزِيَادَةِ الكَيْلَ لَهُم خَشِىَ عَلَى أَبْنَائِهِ مِنْ أَنْ يُؤْذَوا بِمَكِيِدَةٍ مَا.

2 ـ فَإِنْ كَانَ الأَذَى المُتَوَقَّعُ وَقْفًا عَلَى البَشَرِ وَعَلَى مَكَائِدِهِم فَدُخُولُهُم مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ سَيُذْهِبُ عَنْهُم الصِّفَةَ الَّتِى يُعْرَفُونَ بِهَا مِنْ تَجَمُّعِهِم، فَيَعْبُرُونَ بِسَلاَمٍ،وَتَكُونَ الحَاجَةَ الَّتِى كَانَت فِى نَفْسِ يَعْقُوبِ قَدْ قُضِيَت.

3 ـ أَمَّا إِذَا مَا كَاَن الأَمْرُ غَيْرُ ذَلِكَ وَكَانَ ثَمَّةُ عِقَابٍ مِنَ اللهِ، حَكَمَ بِهِ سُبْحَانَهُ عِقَابًا لَهُم عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ فِى حَقِّ يُوسُفَ، فَإِنَّ يَعْقُوبَ لَنْ يُغْنِىَ عَنْهُم مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَلِذَا قَالَ: “وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ ۖ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ”.

4 ـ وَالحَقِيِقَةُ أَنَّ الأَمْرَ كَانَ بِخِلاَفِ مَا قَدَّرَهُ الجَمِيِعُ، فَيُوسُفُ هَوَ مَنْ كَانَ وَرَآءَ كُلِّ ذَلِكَ بِتَقْدِيِرِ وَإِذْنِ الحَكِيِمِ العَلِيِمِ، فَلَمْ يُغْنِ دُخُولُهُم مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ اللهِ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ يُوسُفُ يَعْرِفَهُم فُرَادَى وَمُتَفَرِّقُونَ، وَتَمَّ الأَمْرُ عَلَى الوَجْهِ الَّذِى أَرَادَهُ اللهِ لَهُم، وَتَحَقَّقَت رُؤْيَاهُ عَلَى التَّفْصِيِلِ الوَارِدِ بِالسُورَةِ.

وَلَوْ كَانَ لِلحَسَدِ وَالعَيْنِ دَخْلٌ فِى المَوْضُوعِ لأَطْرَدَ الأَمْرُ، وَلَطَلَبَ يَعْقُوبُ مِنْ بَنِيِهِ أَلاَّ يَجْتَمِعُوا أَبَدًا، وَهُوَ مَالَمْ يَحْدُث. بَلْ إِنَّهُم اجْتَمَعُوا مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ يُوسُف، وبَعْدَ الانْصِرَافِ قَبْلَ أَنْ يُتَّهَمُوا بِالسَّرِقَةِ، ..الخ!!

وَلَوْ كَانَ لِلحَسَدِ وَالعَيْنِ أَذْكَارٌ تُقَالُ أَوْ أَشْيَآءٌ تُتْلَى لَجَآءَ النَّصُّ بِذِكْرِهَا!!!

وَلَوْ كَانَ لِلحَسَدِ وَالعَيْنِ تَأثِيِرٌ لاَزِمٌ يَسْتَلزِمُ التَّفَرُّقَ لأَطْرَدَ، وَلَلَزَمَ المُؤْمِنِيِنَ دَوْمًا، وَلَجَآءَ النَّصُّ بِهِ، وَهُوَ مُمْتَنْعٌ، وَمُنْعَدِمٌ!.


1 ـ فَاللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ يُريدُ، وَأَنَا وَأَنْتَ نُريدُ، وَلَكِن بَيْنَ هَذَهِ الإِرَادَاتِ بُعْدُ المَشْرِقَينِ. فَأنَا وَأَنْتَ ـ طِبْقًا لِنِظَام الخَلْقِ ـ نُريدُ لِحَاجَةٍ تُلِمُّ بنَا، وَلِطَبيعَةِ تَكْوينِنَا البَيُولُوجِي، الَّذِي يَشْتَركُ مَعْ بَقِيَّةِ الكَائِنَاتِ الحَيَّةِ فِي الدَوَافِع المَادِّيَّةِ الَّتِي تُحَافِظُ عَلَي بَقَاءِ النَوْع وَاسْتِمْرَارهِ, وَبَقَاءِ الحَيَاةِ عُمُومًا، كَدَوَافع؛ الجوعِ؛ الّذي يؤدي للاحتياج إلى الطعام، ودافع البقاء؛ الّذي يؤدي للاحتياج إلى الجنس، والمأوى، والملبس، وكذلك دوافع تحاشي الألمِ، وتحاشي الخوفِ،..الخ، وَمُرُورًا بالدَوَافِعِ الاجْتِمَاعِيّةِ، كالتقليدِ، والتملكِ، والانتماءِ، والمنافسةِ، والتفوقِ، والسيطرةِ، وَانْتِهَاءً بالدَوَافِعِ الفِكْريّةِ.

2 ـ هِذِهِ الإِرَادَةُ لَهَا تَعَلُّقٍ مُبَاشِرٍ بأسْمَائِهِ الحُسْنَي. فَمَا يُريدُهُ سُبْحَانَهُ يُجْلي شَيْئًا مِن هَذِهِ الأَسْمَاءِ، كَأن يُريدَ اللهُ شَيْئًا فَيَكُونُ؛ فَيَتَعَلَّقُ باسْم العَلِيمِ، والخَبِيِرِ، وَالحَكِيِمِ، وَالخَالِقِ، وَالْقَادِر، وَالبَارئِ، وَالمُصَوّرِ، وَاللّطِيفِ، ..الخ. أَوْ يُرِيدُ حَدَثًا مَا، فَيَكُونُ، فَيَتَعَلَّقُ باسْم القَاهِر، وَالمُهَيْمِن، وَالفَتَّاح، ..الخ، وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِن أَنَّ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا للهِ تَعَالَى، وحَاضِرَةٌ فِي كُلِّ المَنَاحِي.

3 ـ أو طَاقَةٍ؛ بِاعتِبَارِهَا صُورة مِن صُوَر المَادَّةِ.

4 ـ أمَّا إذَا مَا تَعَلَّقَ القَضَاءُ بِاخْتِيَارَاتِ مُخَيَّرٍ فَقَدْ أصبحَ القَضَاءُ حُكْمًا تَشْرِيعيًّا مُلْزِمًا لِمَن يَتَنَاولُهُم الحُكمُ. إذْ إنَّ اللهَ تَعَالَى سَبَقَت إرادَتُهُ بمَنْحِ حُرِّيَّةِ الاخْتِيار لِلنَّاس؛ وَلِذَا فَإنَّ قَضَاَءَهُ المُتَنَاولُ لِهَذِهِ الإِرَادَةِ ـ المُتَعَلِّقَةِ بالْحُكْمِ ـ لاَ يُغَيِّرُ مِنْ إِرَادَتِهِ المُتَنَاولَةِ لِحُرِّيَةِ الاخْتِيَارِ. فالأوَّلُ يَدْخُلُ تَحْتَ الثَانِي.

.