الكلام بلا زمام ولا خِطام لا يرقى للدخان في الهواء. هكذا عرفنا وعلمنا من خلال رِحْلِةِ تراكم طويلة بُنِيَت معالمها لحظةً بلحظةٍ، حتى صار مثل هذا من ثوابتِ القولِ. ولأنني سوف أتكلم هُنا عن حقائقٍ كثيرةٍ، وأمورٍ هامّةٍ، فلابد وأن يدعم كلّ كلمة بُرهان مُناسب لها، وهنا أجد أن ما يُمْكِن وصلَهُ باللهِ فسيكون أمره مُنتهيًا. ولكن الله نفسه هو أحد قضايا الإثبات، فلابد وأن ننتهي أولاً من التعرف علي الله حتى نطمئن إلي ما نُسْنِدَهُ إليه سُبحانه. ومن هُنا . . . نبدأ.
أعتقدُ أنَّ الطريقةَ المُعتمدةَ هُنا ستكونُ مُخْتَلِفَةً؛ حيثُ ستَعتمدُ أولاً علي التكوينِ المادّيِّ والمعنويِّ الّذان خُلِقَ الإنسانُ بهما، حيثُ صُمِّم وهو يستطيعُ ـ بنفخِ الروحِ فيهِ ـ أن يُمَيِّزَ، بين المُعْطَياتِ الفكريّةِ، والقضايا المعنويّةِ، كما يستطيعُ الحيوانُ البريُّ، أن يُمَيِّزُ بينَ الروائحِ، مهما قلَّ وَدَقَّ الفرق بينِها. وسببُ تزويدِ الإنسانِ بهذه الإمكانياتِ الرفيعةِ والدقيقةِ هو كونهُ محلّ اختبارٍ هذه هي أدواته. ومن ثمّ فإن الإنسانَ يستطيعُ ـ بامتيازٍ ـ أن يُفَرِّقَ، بين الحقِّ والباطلِ، بدقّةٍ أعلي من دِقّةِ تفرقةِ الحيواناتِ بينَ الروائحِ، ومن هُنا اعتمدتُ علي هذهِ القُدرةِ علي التَفْرِقةِ في تحديدِ المَصْدرِ المُعْتَمَدِ، وكذلك في تحديدِ المادةِ العِلميّةِ، وطريقةِ تناولها، وفي تَحْدِيدِ المُخَاطَبِ أيضًا. كما سأضطرُّ إلي الكلامِ عن المصادرِ المُعْتَمدةِ عِندي؛ حيثُ لاحظت أنّ الكثيرَ ممن يَنسِبُونَ أنفُسَهم للعلمِ، يدأبون علي ولوج دائرة البحثِ، وهم عُراةٌ من أساسياتِ ولوجهِ، حتى إنّهم لا يُفَرِّقُونَ بين البُرهانِ وبين الشُبهاتِ، ولا يعرفون نظريًّا؛ الفرق بينهما.
البُرهان: ودونَ إطالةٍ؛ فكلّ ما يعتمد علي المقطوع به فهو بُرهانٌ، وكل ما تجاوز القطعيّ إلي الظنيّ فهو شُبهةٌ. ومن ثَمَّ فقد وَجَدتُ أنّهُ من المُهمِّ بين يديّ هذه المُقَدِّمةِ، أن أُشيرَ إلي أنّ منهجي المُتّبع هنا في طرح الموضوعات، سيعتمدُ علي المقطوع بهِ فقط (البرهان)، مُبتعدًا عن موارد الظنِّ، إذ إنّه ـ علي أحسنِ الأحوالِ ـ يجعلُ من كلّ ما يترتب عليه، حاملاً لنفس جيناته، وأوصافه، فلا تُغادرُ النتائجُ ـ هي الأخرى ـ الظنّ قيدَ أُنملةٍ، وهو ما نربأ بمُصَنّفِنا هذا عنه، وإنما أردناه أن يكون مُصَنَّفًا قويًا يهدف لإحقاق الحقّ، ويستمدُّ قوَّتَهُ من الحقِّ المنبعثُ من بين ثنايا المقطوع به.
ينبغي أيضًا أن نفهم أنّ هناك فرقًا جليًّا بين الحياة في مُحيطِ الظنِّ، وبين اتباعِ الظنِّ. حيث إننا نعيشُ في عالمٍ من النسبيّةِ، يصبغُ كلَّ النتائجِ بلونهِ، وهو ما يعني أنّ المقطوعَ بهِ هو مقطوعٌ بهِ بالنسبةِ إلي غيرهِ، أما الظنّ ـ المنهيّ عنه ـ والّذي سنتحاشاه فيما هو ءاتٍ فهو ظنُّ المرجعيّةِ ومرتكازاتِها.
القَلْبُ: وما دُمنا قد اعتمدنا مرجعيّةً قائمةً علي التدقيقِ والتَحقيقِ، فسيبرزُ حتمًا دورُ العقلِ والفؤادِ كمرتكزٍ أولٍ لإحقاقِ الحقِ. فالعقلُ (كجزءٍ من القَلْبِ) هو النعمةُ الكُبري، ومحلّ نفخة الروح، ويُمَثِّلُ القاعدة التي سترتكز عليها بقية النِعم. وهو يُمَثِّل الحاسّة الأولي، ومنه يصدر المنطق، وكله يتعلق بالماديّات. ثمّ يأتي دور الفؤاد، وهو محل حدوث الاطمئنان، ومُتَعَلَّقَهُ هو الماورائيات والمعنويات، وهو يُمَثِّل الحاسّة السابعة (ويقع بين العقل والفؤاد الحواس الخمس المعروفة)، ولا يعملُ مُنْفَرِدًا، وإنما يتبع العقل كحارسٍ له. ويُكَوِّنُ العقل والفؤاد، إضافة للذاكرةِ والمُخيّلةِ؛ القلب.
ثُمَّ إنّه قد تَبَيَّنَ لي بهذا القلب ـ بما لا يتسرب إليه أي مثقالٍ من شكٍ ـ أنَّ لهذا الكونِ خالقٌ، وصانعٌ عظيمٌ. ولكن البحث عنهُ يستَغْرِقُ جَهدًا وفِكرًا وإخلاصًا، حيث تتعددُ الألهةُ بكثافةٍ ثقيلةٍ في هذه الدنيا، حتى أنّ أكثرها يلتبسُ تأليهها علي مؤلهيها، ولكنّ الإله الحقّ، الخالق، القادر، هو واحدٌ فقط، ويجب تحديده بدقّةٍ متناهية، من خلال دور العقل، ودور الفؤاد؛ وبذلك نكون أمام المرجعية الثانية والنهائية، والأساسية، التي بتحديدها يتحدد أيضًا دور القلب.
القرءان: نحن سنتعامل هنا بشكلٍ قضائيٍ، نقوم فيه ـ عند عرض أي موضوعٍ ما ـ بالفصل بين البراهين، وبين الشُبهات، مع إقرار مرجعيةٍ ثانيةٍ تتصفُ هي أيضًا بصفةِ القطعِ، والبعد عنِ الظنِّ، كمُرْتَكزٍ ثانٍ، وهو ما وجدتُّهُ في كتاب الله “القرءان”، وذَلِكَ من خلال رحلة تمحيصٍ طويلة، تسرب فيها الوهنُ للجسدِ، والتجاعيدُ للوجهِ، وكلَّ فيها البصرُ، وتقلَّبَ بين مراجعٍ عِدّةٍ، حتى استطاع أن يطمئن انتهاءً لمرجعيةِ الحقِّ، وهو ما سيبرزُ أيضًا علي سطور الكتابِ المختلفةِ.
فإذا ما كان العقلُ، هو والكتابُ الّذي تمّ تمحيصهُ، هما الحارسان النابهان لما سنخوض فيه هنا من قضايا، فأعتقد أن كلّ باحثٍ عن الحقِ ـ بتجردٍ وعقلٍ مُنْفَتحٍ ـ سيطمئنُ إلي ما سننتهي إليه هُنا، وسيكونُ هذا البحثُ ـ في النهايةِ ـ هو هديّةٌ قَيِّمةٌ، وعونٌ، ومَددٌ له، بنفسِ الوقتِ الّذي أُحاولُ فيهِ تسجيلُ موقفي في هذه الدُنيا التي جئناها لوقتٍ في مُنتهي القِصَرِ، وغايةِ الضيقِ، لننتقل بعدها إلي العالم الرحب، الّذي تختلف قوانينه تمامًا، عن قوانينِ هذا العالم السُفليّ، المؤقت، المكتظّ بأسبابِ الشقاءِ، وصروفِ المِحنِ. ولكي أكون عونًا للباحثين عن الحقِّ في هذه الدُنيا التي تعجُّ بالتزويرِ والكذبِ، ليستطيعوا هُم أيضًا أن يُسَجِّلوا مواقفهم، من قبلِ أن يُفاجئهم الرحيلُ في وقتٍ ما، وهم ليسوا علي أهُبّة الاستعداد بعد.
لا أنتظر أجرًا من أحدٍ علي جهدي هذا، وإنما بذلتُهُ لكيّ أُصَلّي به علي النبيّ، بعيدًا عن دروشة الصلاة الفَمّيّةِ، التي لم يُنْزِل الله بها سُلْطَانًا، ولم يقل ـ مثلاً ـ: “قولوا”، بل قال: “صلّوا”، وشتان ما بينهما، كما هو الحال بين القولِ والفعلِ. ولكي أُبَرئُ الرسولَ ـ أيضًا ـ من بعضِ ما كُذِبَ به عليه، ولُصِقَ له، وهو منافٍ للعقلِ، وللكتابِ، ومسيئٍ للرسول أضعاف أضعاف ما يحاول غير المنتسبين إلي الإسلام الإساءة له به.
وللحديثِ بَقِيّةِ.