مَفْهُومُ الصَّلاَةِ

 

الصَّلاَةُ فِي مُجْمَلِهَا هِىَ صِلَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ وَالعَكْسُ. وَيَحْكُمُ هَذِهِ الصَّلاَةَ مَنْظُومَةٌ كَامِلَةٌ مِنَ العِلْمِ الغَيْبِيِّّ، وَالأَوَامِرِ وَالتَّوْجِيهَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ فِي: “إفعل، ولا تفعل”. وهذه التوجيهات والأوامر الربّانيّة هى رحمة من الله لعباده، وهدى لهم يرتقون به ويتعلمون ويبلغون به الصراط المستقيم الموصل لرضى الله وثوابه.

فالله تعالى يُصلي علينا (يصلنا) بهذا الهدي:

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ“.

وتُصلي علينا (تصلنا) الملائكة “وَمَلَائِكَتُهُ” بإنزاله لهداه على النبيّ أولاً، فهو أول من صلى الله عليه وملائكته “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ(1)، ثم يُبلِّغُ الرسولُ أُمَّتَهُ هذا الهدى، فتكون صلاة اللهِ وملائكتهِ علينا (صلتهم) أيضًا قد تمّت. وكل من يهتدي بهذا الهدي ينبغي أن يُصَلّي هو أيضًا لله تعالى بالانضباط بكتابه، ويُصلي على النبيّ (يصله) باتباعه والتأسي بهديه المذكور عنه بالكتاب، وبما جاء به من غيبيات وأحكام، وكان أول المسلمين به (2).

فالصلاة إذًا هى منظومة الصلة بين الله وعباده، وبين العبد وربه، وبين الملائكة والعباد، وبين المسلم والنبيّ . . الخ.

والناظر بتدبر في العبادات عمومًا يجدها كلها تصب في الصلاة كمفهوم، حيث إنها وسيلة للتهذيب والترقي والسموّ والالتزام بأحكام الله وحدوده. فالإنسان يتكوَّنُ من جِسْمٍ ونفس، ولكلٍّ مِنهُما نصيبٌ من العبادةِ، فيقومُ الجسمُ (المادي) بالشِق العملي (المادي)، ليساعد بذلك علي الوصول بالنفس إلي كُنه وحقيقة الصلاة.

وعندما يقول تعالي: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ. .“، فلا يُعقل أن تتوقف إقامة الصلاة ـ بمعني الأداء ـ علي التمكين، وهي التي لا تنقطع حتي أثناء الحرب ويتم قصر هيئاتها أثناء الخوف. إذن فهناك مقصد ءاخر للصلاة هنا بخلاف كونها الأداء المعروف.

وعندما يقول تعالي: “ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ“، فإن الذهن المؤمن لن ينصرف لأداء الصلاة (الحركات والشكل)؛ إذ المفترض أن المؤمن يقترن بالمؤمنة التي تؤدي الصلاة أصلاً.

 وعندما يقول إبراهيم عليه السلام: “رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ. .”، فإن الأولي أن يشمل الدعاء كل العبادات، فلماذا أداء الصلاة بالذات؟!

إذن فقصر معني الإقامة على الأداء (الحركي) هو خطأ ظاهر.

وحتى هذا الأداء إذا ما نظرنا إلى حقيقته فسنجد أن أداء الصلاة عبارة عن وقوف شخص ما في حالة خشوع وهو يستحضر وجود الله، وأنه يقف بين يديه يناجيه. وهذا الخشوع يأتي كعوض عن الحواس، أو لنقل إنه يسير على التوازي مع الحواس.

فطبيعة البشر هى أنهم يطمئنون لما يقع داخل دائرة حواسهم. ولأن الله سبحانه غير منظور للناس؛ فإن المؤمن يستعيض عن حواسه بحال الخشوع الّذي يتملكه ويجعله يستشعر عظمة وقدسية المقام الرباني (3)، وهو يتفكر في ما قاله سبحانه عن نفسه، وما وقر في نفس المؤمن من أسماء الله، ومصاديق هذه الأسماء عنده من الكتاب المبثوث في الكون، وما تحقق له منها.

فإذا ما انتهي الشخص من صلاته الميقاتية فالمطلوب منه هو أن يستحضر هذا الوجود طيلة يومه. فلو سلم له ذلك فقد أقام الصلاة، وخرج من ضيق الأداء إلي سعة المفهوم والهدف، وحَقَّقَ وجود الله في حياته، وراقبه سبحانه في جميع أحواله؛ فيقف عند حدوده ويمتنع عن كل ما هو فحشاء أو منكر؛ ولذا قال تعالي: “.. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ..“، . . . وبدهي أن الانتهاء عن الفحشاء والمنكر يدوم بدوام حياة مقيم الصلاة.

ولكي يصل الأداء بالمُصلي لتحقيق المفهوم فلابد أن يقوم أداءه على الخشوع، ولذا قال تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَـٰشِعُونَ ﴿٢﴾“.

وهذا الخشوع يقوم بشحن وتغذية الحالة القلبية للمُصَلّي بحيث يجعل حالة المراقبة ممتدة ومستمرة لبقية الوقت، فيصير المُصَلّي في حالة من المراقبة لربه مادام حيًّا ومستيقظًا.

فالمؤمن الّذي يُصلي بحق هو إنسان خاشع، راكع، وقَّاف عند حدود الله، يراقب ربه في أفعاله، ويلزم حدوده، ولا يعتدي، ولا يظلم، ويسجد لربه فلا يُغلّب علي دينه ما اختلقه المخلوق، أو على كلامه كلام شياطين الإنس، ويعلم أنه ملاقٍ ربه لا بد؛ انظر لقوله تعالى:

وَٱسْتَعِينُوا۟ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ ﴿٤٥﴾ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَ‌ٰجِعُونَ ﴿٤٦﴾“.

تجد أنه سبحانه وصف الخاشعين بأنهم هم الّذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون، فهم في حالة مراقبة، وعلى موعد.

وفي سورة الأعراف جمع الله سبحانه الأمر كله في التَمسيك بالكِتابِ والصلاة فقال: “وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ ﴿١٧٠﴾“.

ولو تعاملنا أنا وأنت وأقمنا الصلاة بيننا فإن ذلك يعني أن كل واحد منّا سيجعل لله تعالي وجودًا في تعامله، فلا يقع في منكر أو فحشاء.

ولو أقام الناس الصلاة بينهم لوُجِدَ المجتمع المنشود، الذي يراقب أفراده الله تعالي في معاملاتهم بينهم.

انظر لقوله تعالي: “وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلَّا مُكَآءًۭ وَتَصْدِيَةًۭ ۚ..﴿٣٥﴾“.

فالذين سيطروا حُكمًّا علي البيت الحرام استخدموا سلطتهم في المَكِّ والتصدية، فانغلقوا وصدّوا عن سبيل الله، وراحوا يحاربون كل من يفكر في مخالفتهم، واكتفوا بالتباهي بأنهم يسقون الحاجّ، ويُعَمِّرون المسجد الحرام، ويقومون بصيانته، وتوسعتِه، فوصفهم تعالي بالكفر. حتي أن بكة التي وُضع بيتها الأول للناس صارت لطائفة دون غيرها كاستغراق في المكّ، وأُغْلِقَت بائها الممدودةِ كالقارب، وصارت ميمًا مغلقة كالحَلْقَة، كما أغلقوا هم الدائرة علي معتقداتهم ودينهم.

فقوله تعالي “صَلاَتُهُمْ” يعني بها ما هم عليه من علاقات مع غيرهم أسسها لهم دينهم الّذي اخترعوه وورثوه بعيدًا عن دين الله. فهم يرون الإكراه سبيلاً، والصدّ عن سبيل الله مشروعًا، ولذا قارن الله فعلهم التراثي بما عليه المؤمنون فقال:

۞ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَجَـٰهَدَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿١٩﴾التَّوْبَة.

فسماهم الله تعالي بالقوم الظالمين.

ثم انظر لقول قوم شعيب:

قَالُوا۟ يَـٰشُعَيْبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِىٓ أَمْوَ‌ٰلِنَا مَا نَشَـٰٓؤُا۟ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ ﴿٨٧﴾هُود.

فنجد أن الصلاة ـ كما فهمها قوم شعيب ـ هي منهج كامل يستوعب كل لحظات المؤمن، فيراقب الله تعالي في كل أعماله، ومن هذه الأعمال تنظيم النواحي المالية والاستقامة علي الدين بعيدًا عن التراث الأبوي، وبالتالي فلن يُعبد غير الله تعالي. وقد تمسك البؤساء بالتراث الأبوي علي حساب الهدي الرباني، ولم يقيموا الصلاة.

فالصلاة إذن هي المنهج الكامل المنضبط بالمنهج الرباني لتعايش المؤمن منذ يضع قدمه علي أول طريق الإيمان وحتي الرحيل إلي دار الحساب.

هوامش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ وانتبه لقوله تعالى: “يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ..” تجد التماسك القرءاني الدقيق الّذي لا يُمكن أن ينتبه إليه من يريد تقليد ءايات الكتاب؛ فلم يقل تعالى: “يُصلون على الرسول”، إذ إن مقام النبوة هو من يحتاج إلى صلاة الله وملائكته ليتم له دينه، ولو قال: “الرسول”، لكان الرسول يحتاج إلى من يقومه في تبليغه، وهذا يطعن في التبليغ، وتضحده ءايات كثيرة، . . . فتأمل لعمق وعظمة الكتاب!!!

2 ـ لا أن يفعل كما يفعلون الأن من القول: “صلى الله عليه وسلم”، فالله تعالى لم يقل: “قولوا: صلى الله عليه وسلم”، وإنما أمر بالصلاة عليه، وفرق واسع بين قول وبين فعل، وبين قول لم يُنَصُّ عليه، وبين فعل محدد مأمور به، ومهجور بالوقت نفسه.

3 ـ وإن كان هذا غير دقيق؛ إذ العقل والمنطق وما يترتب عليهما من مسلمات وبدهيات هو في مجمله حاسة من الحواس المُنْعَم بها على الإنسان منذ أن نفخ الروح القدس فيه، بل الحواس قد تُخطيء ما لا يخطئه العقل.

4 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
رضا البطاوى
رضا البطاوى
12 سنوات

حياك الله على هذا المقال ففعلا كلمة الصلاة فى القرآن تدل على عدة معانى :
1- الصلاة بمعنى طاعة كل أحكام الله وهو ما كتبته فى مقالك
2- الصلاة بمعنى الصلاة التى يظن الناس أنها حركات مع أنها قراءة للقرآن لألا ذكر لاسم وهو حكم الله الممثل فى كتاب الله كما قال تعالى “فى بيوةت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ” ةوالصلاة التى يقال عنها حركات ليست سوى كلمات القرآن النى نقولها كما قال تعالى “ولا تقربوا السلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ”
3- الصلاة بمعنى الدعاء  للميت وهو الاستغفار له كما قال تعالى “ولا تصل على أحد منهم مات أبدا “فقد ورد قبلها الاستغفار للمشركين
4-صلاة الله علينا وعلى النبى(ص)وهى رحمته لنا بغفرانه لذنوبنا كما قال تعالى “إن الله وملائكته يصلون على النبى ”
5-الصلاة بمعنى الاستغفار للأحياء كصلاة النبى(ص) للمؤمنين “وصل عليهم ” وكصلاة الملائكة على النبى (ص)فهو يستغفرون الله لنا ومثل صلاتنا على النبى “صلوا عليه “فمعناها أن نطلب له الغفران من الله على ذنوبه .
رضا البطاوى
منتدى بيت الله
 

ehababdo
ehababdo
Reply to  رضا البطاوى
12 سنوات

مرحبًا بك أستاذ رضا فى موقعك واسمح لى بالتَعليق عَلى مَا قُلته:
1 ـ فهمت مِن مداخلتك الكريمة إنكارك للصلاة الحركيّة، وَهُوَ غير صحيح.
2 ـ الأية الَّتى استشهَدت بِهَا لَيست نَصًّا فى الصلاَة.
3 ـ صَلاة اللهِ عَلينا لا عِلاَقةَ لَها بغَفر الذنوبِ.
4 ـ صَلاةُ اللهِ عَلى النَّبىّ لا عِلاَقةَ لَها بغَفر الذنوبِ.
5 ـ صَلاة النَّاس على النَّبىّ لَيسَ معنَاها أن نطلب له الغفران من الله على ذنوبه.
معذرة لعَدم التَفصيل لظروفٍ خَاصّة،
وسَأُفَصِّلُ الرَدّ قَريبًا.

دُمت بخير.

حكيم
حكيم
10 سنوات

اهلا بك انا حكيم طبيب من الجزائر صلاة الله على النبي او على المؤمنين هي الهداية للطريق المستقيم اما صلاة الملائكة فهي الدعاء او الاستغفار للنبي و للمؤمنين بالهداية لا يمكين ان نفهم صلاة الله العظيم المنزه على النبى او المؤمنين على ظاهرها لكن لما نقول ان صلاة الله هي الهداية فهذا هو الصحيح لان الهادية لا تاتي الا من الله العظيم . اما صلة المؤمنين بي الرسول سواء الذين عاشوا معه ام الذين جائوا بعده بي قرون فهي الالتزام بي الرسالة التى انزلت عليه اي القران و التسليم بما جاء فيها كليا يعني طاعة كل اوامر الرسالة اي القران و بالتالي يكون هناك طاعة لله لان طاعة الرسول او الر سالة او القران هي طاعة الله .اما قولك ان الانسان مكون من جسد و نفس فهذا خطا يا استاذ لان كل الايات تبين ان الانسان هو النفس و العكس صحيح و هو مكون من جسد حي زائد حواس زائد عقل و تفكير كل ذلك يكون النفس او الانسان و لما تنتهي الحياة داخل الجسد تتعطل الحواس و يذهب العقل و التفكير و بالتالي تموت النفس اي تنعدم او تذهب من الوجود و للحديث بقية….