المحْوَرِ الثَّالِث: النُصُوصُ القَطْعِيَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ بِمَا سَيَفْعَلُ العِبَادُ (عُمُومًا).
.
بِخِلاَفِ مَا سَبَقَ سَنَجِدُ الكَثِيرِ مِن الأَيَاتِ النَاصَّةِ عَلَى عِلْمِ اللهِ المُسْبَقِ بِأعْمَالِ العِبَادِ، وَمِن ذَلِكَ:
.
14/1/3 ـ مَغْفِرَةُ اللهِ لِرَسُولِهِ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وَمَا تَأخّر:
.
يَقُوُلُ اللهُ تَعَالَي مُبَيِّنًا أنَّ الشِرْكَ إثْمٌ عَظِيمٌ:
“إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)” النساء.
وَالنَصُّ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بهِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَذِّرًا إيَّاهُ مِن الوُقُوعِ فِى الشِرْكِ:
“وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)” الزمر.
فَسَوَاءٌ وَقَعَ الشِرْكُ مِن مُقْتَصِدٍ أَوْ مِن مُحْسِنٍ ـ وَلَوْ كَانَ نَبيًّا ـ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ؛ وَلِذَا يَقُوُلُ سُبْحَانَهُ لِنَبيِّهِ مُحَمّد مُحَذِّرًا إيَّاهُ بَعْدَ أَنْ كَادَ أَنْ يَرْكَنَ لِلكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ شَيْئًا قَلِيلاً:
“وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)” الإسراء.
وَمَع كُلّ هَذِهِ المَحَاذِير المُحْتَمِلَةِ الوقُوعِ، فَإنَّنَا نَجِدُ بنَفْسِ الوَقْتِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُوُلُ لِنَبيِّهِ:
“إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2)” الفتح.
الَّذِي يَدُلُّ عَلي أنَّ اللهَ تَعَالى قَدْ غَفَرَ للنَّبيّ مَا تَأخَّرَ مِن ذَنْبِهِ، أيّ مَا سَيأتي مُتَأخِّرًا إلي نِهَايةِ عُمرهِ.
.
وَلَوّ قُلنَا بأنَّ اللهَ تَعَالى ـ وَحَاشَاهُ ـ لاَ يَعْلَمُ مَا سَيَفْعَلُهُ النَبيُّ فِي المُسْتَقْبَلِ الأَتِي مِن حَيَاتِهِ إلاَّ عَلَى سَبِيلِ الاِحْتِمَالاَتِ، لَكَانَت هَذِهِ المَغْفِرَةِ الاسْتِبَاقِيَّةِ وَاقِعَةٌ فِي حَيِّز المُغَامَرةِ وَالمُجَازَفةِ؛ إذْ إنَّهُ هُنَاكَ احْتِمَالٌ قَائِمٌ أنْ يَقَعَ ثَمّةَ خَطَأٍ مَا، يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ بهِ النَّبيّ فِي أَي شِركٍ وَلَوْ ضَئِيلٍ فِيمَا تَبَقَّى لَهُ مِن عُمُرِهِ، وَإلاَّ كَانَ قَولُهُ تَعَالَى: “وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ..” زَائِدًا وَلاَ حَاجَةَ لَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بِسُورَةِ ءَال عِمْرَان:
“وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)“.
فَتَحْذِيرُ اللهِ لِلنَبِيِّينَ مِن التَوَلِّى، يَجٍعَلُ ذَلِكَ مُمكِنَ الحُدُوثِ، وَإلاَّ كَانَ زَائِدًا، وَحَاشَا للهِ أنْ يَقُولَ حَرْفًا زَائِدًا فَضْلاً عَن كَلِمَةٍ أوْ ءَايَةٍ.
وَلَوْ صَحَّ مَا زَعَمُوهُ مِن جَهْلِ اللهِ تَعَالَيَ بأَفْعَالِ العِبادِ تَحْدِيدًا، لَكَانَت هَذِهِ المَغْفِرَةِ الاسْتِبَاقِيَّةِ ـ المَذْكُورَةِ لِرَسُولِ اللهِ ـ مُصَنَّفةٍ فِي تَحْسِينِ الظَنِّ، وَهُوَ مَا لاَ يَلِيقُ باللهِ تَعَالَى، وَإنَّمَا الصَحِيحُ هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ عِلمًا مُطْلَقًا أَنَّ نَبيَّهُ لَنْ يَقَعَ مِنْهُ فِيمَا تَبَقَّى مِن عُمُرهِ شِرْكٌ مَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعُ الحُدُوثِ حَتَّى يُغَادِرُ النَبيُّ الحَيَاةَ الدُنْيَا. وَالسَبَبُ فِي هَذَا الاِسْتِبَاقُ هُوَ أنَّهُ لاَ يُوجَدُ زَمَنٌ مُسْتَقْبَلٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإنَّمَا كُلّ هَذِهِ الأَحْدَاثِ عِنْدَهُ هِىَ فِي حُكْمِ المَاضِي وَالحَاضِر، وَلاَ يَعْزُبُ عُنْهُ مِثقَال ذَرَّةٍ مِن غَيْبٍ إلاَّ وَهُوَ يَعْلَمُهَا سَبْحَانَهُ: “عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)” التغابن.
.
15/2/3 ـ مسألةُ التقاطِ مُوسَى:
.
يَقُوُلُ اللهُ تَعَالَي فِى قِصَّةِ نَبِيِّهِ مُوسَى:
“.. إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)” طه.
وَنُلاَحِظُ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: “يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ”، الَّذِي يُبَيِّنُ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى بأَفْعَالِ العِبادِ فِي المُسْتَقْبَلِ لِتَعَلُّقِهِ بعَمَلِ العَدُوِّ (فِرْعَوْن) المُسْتَقْبَلِيّ، الَّذِي سَيَظَلُّ عَلَي عَدَاوَتِهِ للهِ، ولِلمُؤمِنِ مُوسَى، وَسَيَأخُذُ مُوسَى، وَيَعْتَنِي بهِ، وَيُرَبّهِ، ويَحْتَضِنُهُ. وَكَانَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَقْتُلَ فِرْعَوْنُ مُوسَىَ بمُجَرَّدِ أَنْ تَنَالَهُ يَدَاهُ، حَيْثُ كَانَ يُذَبِّحُ مَوَالِيدَ بَنِي إسْرَائِيلَ حِينَئِذٍ، أَوْ أَنْ يُؤمِنَ فِرْعَوْنُ مُسْتَقْبَلاً، وَبَابُ الاحْتِمَالاَتِ كَانَ مَفْتُوحًا عَلَى مِصْرَاعَيهِ، بمَا لاَ يُتِيحُ لِمَن يَجْهَل أَعْمَالَ العِبَادِ المُسْتَقْبَليِّةِ أَنْ يُحَدِّدَ مَا سَيَحْدُث عَلَي وَجْهِ اليَقِينِ، وَلَكِنَّ “عَالِمُ أَفْعَال العِبَادِ” فِي المُسْتَقْبَل ـ سُبْحَانَهُ ـ قَالَ لأِمِّ مُوسَي (تَحْدِيدًا لاَ احْتِمَالاً):
“..فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)” القصص.
فتَعَدَّىَ سُبْحَانَهُ العِلمَ بمَا سَيَفْعَلُهُ فِرْعَونُ إلَي كُلِّ مَا سَيَحْدُثُ مِنْهُ وَمِن غَيْرِهِ. وَلَوْ أنَّ عِلْمَ اللهِ احْتِمَالِىٌّ لَمَا قَالَ تَعَالَى بِمَا سَيَقَعُ مِن فِرْعَون عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ (1).
.
16/3/3 ـ كِتَابَةُ عُمْر المُنْتَحِر:
.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي فِي مسألةِ الأعْمَار:
“..وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)” النساء.
وَمَعْلُومٌ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ عُمرًا يُعْتَبَرُ حَدًّا أقْصَىً لَهَا، وَبِالتَالِى فَيُمْكِنُ لِلنَفْسِ أنْ تَسْتَكْمِلَ عُمُرَهَا، وَيُمْكِنُ أنْ تُنْقِصَهُ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ جِدًا، مِنهَا قَتْلُ نَفْسِهَا بِالانتِحَار، والتَدْخِين، وَشُرْبِ الكُحُولِّ، . . الخ. وَمَفْهُومُ الأَجَل الوَارِدِ فِى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا” يَعْنِى أنَّهُ إذَا مَا تَوَفَّرَت الأَسْبَابُ المُفْضِيَةُ إلَى المَوْتِ فَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ هَذِهِ النَفْس وَلاَ لِلَحْظَةٍ (2).
وَفِى مَسْألَةِ نَقْص العُمُرِ يَقُولُ تَعَالَى:
“وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)” فاطر.
وَنُلاَحِظُ أنَّ كُلاًّ مِنَ المُعَمِّر وَنَاقِصَ العُمْرِ قَدْ كُتِبَت أعْمَارهِمَا فِى كِتَابٍ، وَلَوْ لَم يَكُن الله يَعْلَم أعْمَال العِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا لَمَا كُتِبَ عُمْرُ المُنْتَحِر وَأشبَاهِهِ.
والسُؤَالُ الأَن لِمُدَّعِى العِلم هُوَ: هَل كَتَبَ اللهُ الأعْمَارَ، بِمَا فِى ذَلِكَ الأعْمَارَ النَاقِصَةَ كَنَتِيجَةٍ لِفِعْلِ صَاحِبهَا، عَلَى سَبيلِ العِلْمِ المُحَدَّدِ أم عَلَى سَبيل الاحْتِمَال؟!
.
17/4/3 ـ النَصُّ عَلَى العِلْمِ بَمَا خَلْفَ النَّاسِ:
.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي عَنْ نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ:
“..يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء.. (255)” البقرة.
“يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)” طه.
“يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)” الحج.
ومعلوم أنَّ ما خلفهم تعني ما سيأتي بعد، كَقَولِهِ تَعَالَى:
“وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (9)” النساء.
وَمِن غَيْرِ المَقْبُولِ عَلَى اللهِ أن يَكُون هُنَا عِلمَان، أحَدُهُمَا (مَا بَينَ أيدِيهِم) يَقِينِى، وَالأَخَرُ (مَا خَلْفَهُم) احْتِمَالِىٌّ، ثُمَّ يُبْهِمُ اللهُ الفَرقَ بَينَهُمَا، وَيَضَعْهُمَا فِى سِيَاقٍ وَاحِدٍ هَكَذَا؛ إذ إنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ مِن مَخْلُوقٍ لَسُمِّىَ تَدْلِيسًا، وَحَاشَا لِلّهِ مِثْلَ ذَلِك.
.
18/5/3 ـ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ:
.
أخْبَرَ اللهُ تَعَالَي عَنْ المُخَلَّفِين مِن الأَعْرَابِ بِمَا سَيَقُولُونَهُ مُسْتَقْبَلاً:
“سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا.. (11)” الفتح.
ثُمَّ قَالَت الأعْرَابُ نَفس مَا أخْبَرَ بِهِ اللهُ تَعَالَى، فَهَل كَانَ إخْبَارُ اللهِ بعِلْمٍ أم باحْتِمَالٍ؟! . . ثُمَّ أصْدَرَ اللهُ حُكْمَهُ فِيهِم فَقَال:
“فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83)” التوبة.
.
ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ تَعَالَي بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ المُخَلَّفِين مِن الأَعْرَابِ أنَّهُم مُسْتَقْبَلاً سَيُحَاولُونَ الالْتِفَافَ عَلَى حُكْمِهِ، وَيَطْلُبُونَ الخُرُوج مَع المُؤْمِنِين، وَوَجَّهَهُم إلى رَفْضِ طَلَبِهِم:
“سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)” الفتح.
وَقَدْ حَدَثَ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى بالضَبط. وَلَوْ افْتَرَضْنَا أنَّ العِلمَ احْتِمَالِىّ، لَكَانَ هُنَاكَ احْتِمَال بِألاَّ يَقُولَ المُخَلَّفُونَ ذَلِك، وَلَكِنَّ اللهَ سَاقَ قَولَهُم الَّذِى حَدَثَ بَعْدُ فِعْلاً كَمَا قَال، فَأينَ السَبِيل لِلقَولِ بِالعِلمِ الاحْتِمَالِىّ هُنَا (3)؟!
.
19/6/3 ـ القُرَى المُهْلَكَةِ:
.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي عَنْ القُرَى المُهْلَكَةِ:
“وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)” الإسراء.
فَهَل هَذَا كِتَابٌ كُتِبَ، أَمْ احْتِمَالٌ كُتِبَ؟، وَهَلْ كُتِبَ هَذَا الإِهْلاَكُ وَالعَذَابُ مُجَازَفَةً وَدُونَ عِلْمٍ بِالقَرْيَةِ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، أَمْ أنَّه كُتِبَ بُنَاءً عَلَى عِلْمٍ أَزَلِيٍّ يَقِينِيٍّ، وَمُحَدَّدَةٌ فِيِهِ القَرْيَةُ، وَزَمَنُ إهْلاَكِهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ؟!
وَلِقَائِلٍ أن يَقُول: إذَا كَان هَذَا الإهْلاَك لِلقَرْيَةِ قَدْ كُتِبَ فِى الكِتَابِ بُنَاءً عَلَى إفْسَادِهَا، فَكَيْفَ سَيَكْتُبُ اللهُ أعْمَال أهْلِهَا بَعْدَ حُدُوثِهَا إذًا؟!
وَالجَوَاب أَنَّ الإهْلاَكَ كُتِبَ بُنَاءً عَلَى العِلْمِ، أمَّا الأعْمَال فَتُكْتَبُ بُنَاءً عَلَى العَمَلِ، أىّ حِينَ حُدُوثِهَا. وَلْنَضْرِبُ مَثَلاً بِقَوْمِ نُوحٍ:
عَصَى قَومُ نُوحٍ رَبَّهُم، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى إنَّ مُكْثَ نُوحٍ فِيهِم لِمَا يَقْرُبُ مِن الألْفَ سَنَةٍ لَم يُجْدِ:
“وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)” العنكبوت.
كُلَّ يَوْمٍ مِن هَذِهِ الأَيَّام تُكْتَبُ فِيهِ أعْمَالُ القَوْمِ أوَّلاً بِأَوَّلٍ، حَتَّى حَانَ وَقْتُ إهْلاَكِهِم. وَهُنَا سَنُلاَحِظُ أنَّ إهْلاَكَهُم كَانَ مُقَدَّرًا مِن قِبْلِ. يَقُولُ تَعَالَى فِى سُورَةِ القَمَر:
“فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(12)“.
فَأَمْرُ الإهْلاَكِ قَدْ قُدِرَ، بَينَمَا الأعْمَالُ لاَزَالَت تُكْتَبُ، وَلاَ تَعَارُضَ فِى ذَلِكَ، كَمَا سَنَعْرِفُ لاَحِقًا.
.
20/7/3 ـ دُخُولُ المَسْجِدِ الحَرَامِ:
.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي فِى مَسْألَةِ دُخُوُلِ المَسْجِدِ الحَرَامِ:
“لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)” الفتح.
فَهَذَا الَّذِى حَدَثَ وَاقِعًا، قَدْ أرَاهُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِى الرُّءْيَا مِن قَبْل حُدُوثِهِ بِزَمَانٍ، ثُمَّ قَال: “لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ“. فَهَل يُقَالُ إنَّ مَا أراهُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مِن قَبْل حُدُوُثِهِ هُوَ مِن بَابِ الاحْتِمَالاَتِ، أم مِن بَابِ إحَاطَةِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِمَا سَيَكُونُ، مِن قَبْلِ أن يَحْدُث. وَألَيْسَ هَذَا الدُخُوُل هُوَ مِن أعْمَالِ العِبَادِ أمْ لَيْسَ مِن أعْمَالِهِم؟!
.
21/8/3 ـ إفْسَادُ بَنِى إسْرَائِيل:
.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي فِى مَسْألَةِ إفْسَادِ بَنِى إسْرَائِيل:
“وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5)” الإسراء.
سَيُفْسِدُ بَنُو إسْرَآءِيلَ ـ طِبْقًا لِلنَصِّ ـ مَرَّتَيْنِ، فَهَل هَذَا الإفْسَادُ المُعْلَنُ عَنْهُ هُوَ أمْرٌ مُسْتَقْبَلِىٌ أم لا؟ وَهَل هُوَ مِن أعْمَال العِبَادِ أم لاَ؟ فَإنْ كَانَ هَذَا الإفْسَادُ سَيَحْدُثُ مُسْتَقْبَلاً، وَمِن أعْمَالِ العِبَادِ فَهَل عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَبْلَ حُدُوثِهِ أم لا؟!
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
“..فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7)” الإسراء.
وَوَاضِحٌ تَمَامًا أنَّ عِلمَ اللهِ مُحِيطٌ، وَعَلَى سَبِيلِ التَحْدِيدِ ـ كَمَا رَأينَا فِى الأَيَاتِ ـ لاَ عَلَى سَبِيلِ الاحْتِمَالِ، وَعَلَى الجَاهِل أن يَتَعَلَّم.
.
22/9/3 ـ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ:
.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ:
“وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)“.
وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ. فَهَل عَوْدَتُهُم لِمَا نُهُوا عَنْهُ هِىَ عَوْدَةٌ لِمُمَارَسَةِ مَا سَبَقَ مِن أعْمَالِ العِبَادِ أم لاَ؟ فَإذَا كَانَت الإجَابَةَ بَالإيجَابِ أفَلاَ يَكُونُ اللهُ مُحِيطٌ بِأعْمَالِ العِبَادِ الَّتِى سَتَقَعُ مِنْهُم مُسْتَقْبَلاً؟!
.
23/10/3 ـ الجَزْمُ بِأَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ أحَدٌ مِنْ قَوْمِ نُوُحٍ:
.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَي عَنْ قَوْمِ نُوُح:
“وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ.. (36)” هود.
وَلَوْ سَأَلْنَا المُفْتَئِتَ: ألَيْسَ إيمَانُ النَّاسِ مِن أعْمَالِهِم القَلْبِيَّةِ؟ لَقَالَ: نَعَم، وَلَوْ تَابَعَنَا وَسَألْنَاهُ: ألَم يُخْبِر اللهُ نَبِيَّهُ نُوحَ بِمَا سَيَقَعُ مِنْ قَوْمِهِ مُسْتَقْبَلاً؟ لأجَابَ (مُضْطَّرًا) بِالإِيجَابِ، فَنَقُولُ لَهُ: فَكَيْفَ نَصَّبَتَ مِن نَفْسِكَ حَكَمًا عَلَى عِلْمِ اللهِ وَأَنْتَ تَجْهَلَ كُلَّ هَذَا؟
ألَم تَكُن هَذِهِ الأَيَةِ وَحْدَهَا تَكْفِي فِي بَيَانِ أنَّ اللهَ تَعَالَي يَعْلَمُ أعْمَالَ العِبَادِ مِن قَبْلِ أَنْ تَقَعَ؟!
وَلَوْ قَالَ المُفْتَئِتُ بِأنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى النَّفْسِ لَحْظَة إضْمَارِهِ (كَمَا قَالَ فِى مَسْألَةِ إيمَانِ أبِى بَكْرٍ)، وَبالتَالِى فَقَدْ عَلِمَ مَا فِى أنْفُسِ قَومِ نُوحٍ لَحْظَتَهَا، وَأَخْبَرَ بِهِ رَسُولِهِ، لَقُلْنَا لَهُ: أتَرَى أنَّ اللهَ تَعَالَى يُخْبِرُ هُنَا عَن الحَاضِرِ، أم عَن المُسْتَقْبَل؟ وَلاَ يَسَعَهُ إلاَ القَولَ بِالمُسْتَقْبَل. فَنَقُولُ لَهُ: نَحْنُ نُشَاهِدُ تَقَلُّبَ النَّاسِ وَتَغَيُّرَ مَا فِى أنْفُسِهِم مَع الوَقتِ فَهَل تُجِيزَ ذَلِكَ، أم تَقُولَ بِثَبَاتِ مَا فِى الأنْفُسِ؟ وَلاَ يَسَعَهُ إلاَ القَولَ بِالتَغَيُّرِ، فَنَقُولُ لَهُ فَهَل تُجِيزُ (بَعِيدًا عَمَّا أخْبَرَ اللهُ بِهِ) أنْ يَتَغَيَّرَ حَالَ بَعضِ قَوْمِ نُوحٍ مَعَ الوَقْتِ أم لاَ؟ وَلاَ يَسَعَهُ إلاَّ الإِجَابَةَ بِالإِيجَابِ. فَنَقُولُ لَهُ: قَدْ نَقَضّتُ بِذَلِكَ قَولَكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَنَى عِلْمَهُ عَلَى الاحْتِمَال، أوْ عَلَى مَا فِى الأنْفُسِ.
ثُمَّ نُزِيدَهُ وَنَقُولُ: ألَيسَ إخْبَارُ اللهِ هُنَا يَشْمَلُ الصَغِيرَ إذَا مَا كَبُرَ، وَلاَ يَسَعَهُ إلاَّ الإِجَابَةَ بِالإِيجَابِ، فَنَقُولُ لَهُ: فَهَلْ كَانَ فِى نَفْسِ الطِفلِ وَالرَضِيعِ إيمَانٌ وَقْتَ الإخْبَارِ؟ وَلاَ يَسَعَهُ إلاَّ الإِجَابَةَ بِالنَفْىّ، فَنَقُولُ لَهُ: فَكَيْفَ تَقُولُ إذًا بِأَنَّ اللهَ أخْبَرَ بُنَاءً عَلَى مَا فِى الصُدُورِ، وَهُوَ هُنَا مُنْعَدِمٌ؟ قَدْ نَقَضّتُ بِذَلِكَ قَولَكَ الأَوَّل، وَتَبَيَّنَ أنَّ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّهُم لَنْ يُؤمِنُوا مَهْمَا طَالَ بِهِم الزَّمَن، طِفْلَهُم، وَشَيْخَهُم، وَحَتَّى مَن سَيُولَدُ بَعْدٌ لَوْ وُلِدَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لاَ يَقُولُ مِثلَ ذَلِكَ بَالاِحْتِمَال، فَكُفَّ عَنِ النَّاسِ أذَاكَ!
.
وَالخُلاَصَةُ:
أنَّنَا قَدْ رَأيْنَا فِى هَذَا المِحْوَر الثَالِثِ كَيْفَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِرَسُولِهِ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وَمَا تَأخّر، وَمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَحْدُثَ لَوْلاَ عِلْمُ اللهِ بِسَلاَمَةِ رَسُولِهِ مِنَ الشْرِكِ حَتَّى نِهَايَةِ عُمُرِهِ، كَمَا رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ بمَا سَيَفْعَلَهُ فِرْعَوْنُ مَعَ مُوسَى، قَبْلَ وُقُوعِهِ، كَمَا نَاقَشْنَا مَسْألةَ كِتَابَةِ عُمْر المُنْتَحِر مِن قَبْلِ أنْ يَنْتَحِر، كَمَا رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى العِلْمِ بَمَا خَلْفَ النَّاسِ، وأخْبَرَ بِمَا سَيَقُولُهُ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ مِن قَبْلِ أنْ يَقُولُوه، كَمَا نَاقَشْنَا مَسْألةَ القُرَى المُهْلَكَةِ بِسَبَبِ أعْمَالِهَا، وَكَيْفَ أنَّ الإهْلاَكَ كَانَ مَكْتُوبٌ مِن قَبْلِهَا، وَرَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أخْبَرَ بِدُخُولِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَبِإفْسَادِ بَنِى إسْرَائِيل مَرَّتَيْنِ مِن قَبْلِ أنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ، وَأخِيرًا فَقَدْ رَأينَا كَيْفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ بمَا سَيَفْعَلهُ قَوْمُ نُوُحٍ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ رَسُولَهُ نُوحَ بِذَلِكَ مِن قَبْلِ أنْ يَحْدُثَ، مَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ أنَّ اللهَ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكَوْنِهِ، بِمَا فِى ذَلِكَ العِبَادِ، وَأعْمَالِهِم.
1ـ لاَسِيَّمَا أنَّ المَوقِف لَم يَكُن قَدْ حَدَثَ بَعْد لِيُقَال أنَّ اللهَ قَدْ عَلِمَ أنَّ فِرْعَون سَيَضْمُرُ كَذَا مِن عَدَمِهِ.
2ـ وَلِتَقْريِبِ المَسْأَلَةِ إلَى الذِهْنِ فَنَقُولُ: إنَّ “س” مِن النَّاس قَامَ بقَطْعِ شَرَايين يَدِهِ، فَلَوْ ظَلَّ يَنْزِفَ فَسَيَحْدُثُ هُبُوطًا حَادًّ فِى الدَوْرَةِ الدَمَويَّةِ يُؤَدِّى إلَى تَوَقُّفِ القَلْبِ؛ فَالمَوْتِ. وَبِالتَالِى يَكُونُ قَدْ حَدَثَ هُنَا أمْرَان؛ أحَدُهُمَا أنَّ المُنْتَحِرَ قَدْ أنْقَصَ عُمُرَهُ، وَالثَانِى أنَّ أجَلَهُ لَم يَتَأخّر لَحْظَةً عِنْدَمَا حَانَ. وَلَوْ قُلْنَا إنَّ “ص” مِن النَّاس دَخَلَ عَلَيِّهِ وَقَامَ برَبطِ يَدِهِ فَأوْقَفَ النَزيفَ، فَلَن يَكْتَمِل الانْتِحَار، وَلَن يَحِينَ الأَجَلُ، وَلَن يَنْقُصَ العُمُرَ.
3ـ وَمِثلُ هَذَا الْدَلِيلِ ءَايَاتٍ كَثِيرَةٍ كُلّهَا تَتَحَدَّث عَن أحْدَاثٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ، يُبَلِّغُ اللهُ رَسُولَهُ والمُؤمِنُونَ بِهَا، وَتَحْدُثُ عَلَى التَمَام، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
” يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ.. ” التوبة (94).
الأخ الفاضل ايهاب ،
هنا الحجة قوية قاطعة ولا جدال فيها
اشكرك