عَرِفْنَا أنَّ الكَلِمَةَ ـ بِالتَأوِيِلِ ـ هِيَّ وُعَاءٌ يَجْمَعُ بَعْضَ المُكَوِّنَاتِ الأَسَاسِيَّةِ الَّتِي تُشَكِّلُ فِي النِّهَايَةِ هَذِهِ الكَلِمَةِ. وَالمُكَوِّنَاتُ الأَسَاسِيَّةُ لِلكَلِمَةِ هِيَ مُكَوِّنَاتٌ فِي أَبْسَطِ الصِوَرِ، وَاصْطَلَحْنَا عَلَي تَسْمِيَتِهَا بِالحُرُوفِ. فَالحَرْفُ إذًا هُوَ المُكَوِّنُ الأَبْسَطُ فِي مَنْظُومَةِ الكَلِمَةِ. وَبِوَضْعِ هَذِهِ الحُرُوفِ مَعَ بَعْضِهَا بِتَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ تَنْشَأُ الكَلِمَةُ الَّتِي تَعْنِي فِي النِّهَايَةِ شَيْئًا مُحَدَّدًا وَمَفْهُومًا وَذَا قِيمَةٍ. وَبِالتَالِي فَإِنَّ اللَفْظَ الَّذِي نَلفَظُهُ اصْطُلِحَ عَلَي تَسْمِيَتَهُ بِالكَلِمَةِ لِكَوْنِهِ يَتَكَوَّنُ مِنْ حُرُوفٍ نُظِمَت بِحَيْث تَتَقَوْلَبُ فِي إِطَارٍ يُؤَدِّي إِلَي حَمْلِ مَعْنَي يُصْبِحُ مُحَدَّدًا، وَمَفْهُومًا، وَذَا قِيمَةٍ.
وَنَحْنُ هُنَا نُنَاقِشُ أنَّ الأَمْرُ لاَ يَقَفُ عِنْدَ اللَفْظِ فَقَط، بَلْ إِنَّ المَخْلُوقَ فِي أَصْلِ تَكْوِينِهِ هُوَ خَلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ اصْطُلِحَ عَلَي تَسْمِيَتِهَا بِالخَلِيَّةِ الحَيَوَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِتَشَابُهِ خَلاَيَا الحَيَوَانَاتِ فِي تَكْوينِهَا، وَلِكُلِّ خَلِيَّةٍ نَوَاتُهَا. وَفِي هَذِهِ النَّوَاةِ تَمَّ اسْتِيدَاعِ كَلِمَةٍ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ، بِحَيْثُ لاَ يَخْرُجُ مِنْهَا إلاَّ هَذَا المَخْلُوقِ فَقَطْ، حُرُوفُهَا أَحْمَاضٌ أَمِينِيَّةٌ، وبروتيناتٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ اصْطُلِحَ عَلَي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الحُرُوفِ المُجْتَمِعَةِ وَالمُنْتَظِمَةِ بِالجِيْنُوم، الَّذِي يَجْعَلَهُ كَلِمَةً مُحَدَّدَةَ المَعْنَي، فَكَلِمَةُ الإِنْسَان ـ مَثَلاً ـ تَتَكَوَّنُ مِنْ حَوَالِي ثَلاَثَةُ ءَالاَفِ مِلْيُون حَرْفًا مِنَ الأَحْمَاضِ الأَمِينِيَّةِ، وَالبُرُوتِينَاتِ، وَغَيْرِهَا، مُنْتَظِمَةً فِي شَرِيطٍ بِحَيثُ تُكَوِّنُ هَذَا الإِنْسَان الَّذِي نَعْرِفَهُ، بَيْنَمَا كَلِمَةُ القِرْدِ تَتَكَوَّنُ هِيَ أَيْضًا مِنْ نَفْسِ عَدَدِ الحُرُوفِ تَقْريبًا وَلَكِنَّهَا مَنْظُومَةٌ فِي شَرِيطٍ مُمَاثَِلٍ بِطَريقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي حَوَالِي خَمْسَةَ عَشْرَ مِلْيُونِ حَرْفًا، مَا يَجْعَلُ الفَرْقَ مَحْصُورٌ فِي حَوَالِي نِصْفٌ فِي المَائَةِ 0.5% مِنْ إجْمَالِي حُرُوفِ تَكْويِنِ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَهَذَا الفَرْقُ يَجْعَلُ مِنَ المُسْتَحِيل أَنْ يَكُونَ أَيٍّ مُنْهُمَا أَصْلٌ لِلأَخَر، بَلْ لِكُلِّ مِنْهُمَا كَلِمَتَهُ الخَاصَّةُ بِهِ، كَمَا أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْمٌ مَعْرُوفٌ بِهِ لِكُلِّ لِسَانٍ أَيْضًا.
وَهَذَا المَخْلُوقُ بَعْدَ أنْ يُخْلَقَ يَكْتَسِبُ اسْمًا يُعْرَفُ بِهِ، فَأمَّا أنْ يُنْطَقُ فَيَكُوُنُ صَوْتًا، أوْ يُكْتَبُ عَلَي الوَرَقِ، فَيَكُونُ كَلِمَةً وَرَقِيَّةً. فَالكَلِمَةُ الوَرَقِيَّةُ هِيَ تَصْويرٌ لِكَلِمَةٍ (مَائِيَّةٍ) سَبَقَتْهَا فِي الوَاقِعِ، وَهِيَ (الوَرَقِيَّةُ) كَلِمَةٌ بَسِيطَةٌ قَدْ تَتَكَوَّنُ مِنْ ثَلاَثَةِ حُرُوفٍ أَوْ أَكْثَر، بِخِلاَفِ الكَلِمَةِ الَّتِي خُلِقَ بِهَا المَخْلُوقُ، فَهِيَ كَلِمَةٌ مُعَقّدةٌ، قَدْ يَقْضِي الإِنْسَانُ عُمُرَهُ كُلَّهُ وَهُوَ يَدْرسُ فَرْعًا مِنْ فُرُوع هَذِهِ الكَلِمَةِ. وَهَذِهِ الكَلِمَةُ الأَوَّلِيَّةُ الَّتِي خُلِقَ بِهَا المَخْلُوقُ هِيَ أَصْلُ الخَلِيَّةِ، وَجَوْهَرُهَا، بَلْ وَأَصْلُ المَخْلُوقِ.
وَبِالتَالِي نَسْتَطِيعُ الأَنَ أَنْ نَفْهَمَ المَعْنَى الخَفِىَّ البَعِيِدَ فِى قَوْلِ اللهِ تَعَالَي:
“قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَادًۭا لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِۦ مَدَدًۭا ﴿١٠٩﴾” الكهف.
فَالأَيَّةُ لاَ تُصَوِّرُ سَعَة كَلِمَـٰتِ اللَّهِ فَحَسْب، وَلَكِنَّهَا تُصَوِّرُ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَي عَلَي الخَلْق؛ إذْ الكَلِمَاتُ المَكْتُوبَةُ هِىَ تَعْبِيرٌ عَنْ الكَلِمَاتِ المَخْلُوقَةِ، وَلَوْ تَحَوَّلَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللهِ (الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَاتِهِ)، لَمَا كَفَى البَحْرُ لِكِتَابَةِ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، وَأَقْدَارِهِ، وَلَوْ جِيئَ بِمِثْلِهِ مَدَدًا، وَسَتَظَلُّ الكَلِمَاتُ (المَخْلُوقَاتُ) لاَ يَعْلَمُ قَدْرُهَا إلاَّ اللهَ تَعَالَي الخَالِقُ وَحْدَهُ، وَهُوَ مَا يَعْنِي أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَي عَلَي الخَلْقِِ هِيَ قُدْرَةً لاَمُتَنَاهِيَةً، وَلاَ يُمْكِنُ تَصَوُّرِهَا.
إذًا فَكَلِمَةُ خَلْقِ الشَيءِ هِىَ “مُعَادَلَةُ التَكْوِينِ” لَهُ، الَّتِى بَدَعَهَا اللهُ تَعَالَى الخَالِقُ العَظِيمُ، وَهِىَ ثابتةٌ لاَ تَتَغَيَّرُ، وَتُحَافِظُ عَلَي نَفْسِهَا ذَاتِيًّا كَمَا أَرَاَدَ اللهُ لَهَا، بِحَيْثُ لاَ تَخْتَلِطُ بِغَيْرِهَا، وَتَحْدُثُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ ابتِدَاءًا.