نَصَّ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، عَلَي حَقِيِقَةِ أَنَّ الكِتَابَ المُنَزَّلَ، عَلَي رَسُولِهِ، تَمَّ دَمْجُ نَوْعَيْنٍ، مِنَ الأَيَاتِ فِيِهِ؛ فَقَالَ:
“هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ ءَايَـٰتٌۭ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌۭ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌۭ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِۦ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ ۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّۭ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَـٰبِ ﴿٧﴾“ ءَال عِمْرَان.
فأَوَّلُ هّذِهِ الأَيَاتِ هِىَ ءَايَاتُ الرِّسَالَةِ، الَّتِي تَأتِي لِكُلِّ قَوْمٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وهي النُّورُ الَّذِى أُنْزِلَ لِكُلِّ العُصُورِ، وَلِذَا وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بَأنَّهَا “أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ“، وَهِيَ كَمَا وَضَحَ بالْنَصِّ؛ “مُّحْكَمَـٰتٌ“، مَعْنَاهَا وَاضِحٌ، وَثَابِتٌ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ.
وثانِيهُمَا هيَ الأَيَاتُ المُتَشَابِهَاتُ، وَهُنَّ البُرْهَانُ المُصَاحِبُ (هَذِهِ المَرَّةِ) مَعَ الرِّسَالَةِ الخَاتِمَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أنْ تَبَدَّلَت ءَايَاتُ القُرْءَانِ بِالأَيَاتِ الحَسِّيَّةِ. وَهِيَ كَمَا وَضَحَ بالْنَصِّ؛ ءَايَاتٌ “مُتَشَـٰبِهَـٰتٌۭ“، مَعْنَاهَا يَتَّضِحُ بِمُرُورِ الزَّمَنِ، فَتَتَشَابَهُ فِيِهَا الرُّؤَي عَلَى مَدَاهُ حَتَّى تَسْتَقِرُّ. وَهِيَ الجَدِيدَةُ فِي مَوْضُوعِهَا هَذِهِ المَرَّةِ؛ وَلِذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُمَيِّزًا ءَايَاتِهِ المُنَزَّلَةِ:
“الٓر ۚ تِلْكَ ءَايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ وَقُرْءَانٍۢ مُّبِينٍۢ ﴿١﴾” الحجر.
“طسٓ ۚ تِلْكَ ءَايَـٰتُ ٱلْقُرْءَانِ وَكِتَابٍۢ مُّبِينٍ ﴿١﴾” النَّمْل.
والأَيَاتُ المُحْكَمَاتُ هُنَّ مِحْوَرُ الكِتَابِ، وَمَنَاطُ التَّكْلِيِفِ، وَفِيِهَا البَيَانُ وَالتَّبْيِيِنُ، بَيْنَمَا الأَيَاتُ المُتَشَابِهَاتُ هُنَّ القُرْءَانُ العَظِيِمُ؛ أوْ ءَايَاتُ القُرْءَانِ، أوْ ءَايَاتُ البُرْهَانِ، وَهِيَ مُسْتَوْدَعٌ لِحَقَائِقٍ كَوْنِيَّةٍ؛ تَبْدُو لِلنَّاظِرِيِنَ بِمُرُورِ الوَقْتِ، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أنَّ كُلَّ مَا يَتِمُّ اكْتِشَافُهُ مِنْ هَذِهِ الحَقَائِقِِ هُوَ مَوْجُودٌ بِالكِتَابِ قَبْلاً، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْرفَ بهِ بَشَرٌ، لِيَتَأكَّدُوا مِنْ رَبَّانِيَةِ الرِّسَالَةِ المُحْكَمَةِ ءَايَاتُهَا.
وَلأَنَّ ءَايَاتِ القُرْءَانِ هِىَ الجَدِيِدَةُ هَذِهِ المَرَّةِ فِى مَوْضُوعِهِا، وَفِى إلْحَاقِهَا بَالرِّسَالَةِ؛ فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمَ “القُرْءَان” عَلَى الكِتَابِ الجَامِعِ لِكُلٍّ مِنْ أَيَاتِ القُرْءَانِ، وَءَايَاتِ الكِتَابِ مَعًا؛ كَتَمْيِِّيِزٍ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ السَّابِقَةِ (1).
وَيَسْتَطِيِعُ مُتَدَبِّرُ هَذَا القُرْءَانِ أنْ يُمَيَّزَ المَعْنَى إذَا مَا وَرَدَ لَفْظُ القُرْءَان؛ هَل هُوَ بِمَعْنَى القُرْءَانِ كَكِتَابٍ جَامِعٍ، أمْ هُوَ بِمَعْنَى ءَايَاتِ القُرْءَانِ (البُرْهَانِ) مِنْ سِيَاقِ الكَلاَمِ، وَمُنَاسَبَةِ وُرُودِهِ.
وَلأَنَّ القُرْءَانَ (مِنَ الجَذْرِ “قُرْء”) يَعْنِي البَيَانُ، وَالتَّوْضِيحُ، وَاسْتِخْرَاجُ المَكْنُونٍ؛ فَسَتَظَلُّ ءَايَاتُ القُرْءَانِ فِي حَالَةِ عَطَآءٍ أَبَدِىٍّ، وَإِخْرَاجٍ لِمَكْنُونِهِا مَادَامَت الدُّنْيَا؛ وَلاَ يَبلُغَ أَحَدٌ مَنَ الثَقَلَيْنِ مَا فِيهِ، وَمَا يَحْتَوِيِهِ (2).
هَامِش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الَّتِى ـ بِرَغْمِ أَنَّهَا كَانَت نُورًا مِنَ اللهِ ـ لَمْ تَحْظَ بِمِثِلِ ءَايَاتِ القُرْءَانِ (البُرْهَانِ)، وَإنَّمَا جَاءَت الأَيَاتُ أيَّامِهَا حَسِّيَّةٌ، مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الكِتَابِ.
2 ـ وَدُخُولُ الأَلِفُ وَالنُّونُ عَلَي القُرْءِ جَعَلَهُ “ٱلْقُرْءَانُ” وَهُوَ كَدُخُولِهَا عَلَي ٱلْحَيَوٰةِ فَجَعَلَتْهَا “ٱلْحَيَوَانُ” لِتُضْفِي عَلَيْهَا صِفَةَ الأَبَدِيَّةَ، وَدُخُولِهَا عَلَي الإِنْسِ فَجَعَلَتْهَا “ٱلْإِنسَـٰنُ”، وَهُوَ المُسْتَغْرَقُ فِي مَادِّيَتِهِ، . . وَهَكَذَا. وَإِنْ كَانَ هَذَا لَيْسَ بِمُطْرَدٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَشَفُ مِنْ وَصْفِ اللهِ تَعَالَي لِلقُرْءَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَي:
“سَنُرِيهِمْ ءَايَـٰتِنَا فِى ٱلْأَفَاقِ وَفِىٓ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ ۗ… ﴿٥٣﴾“فصلت.