تَعْرِيفُ النِّسَآءِ

نِسَآء/ النِّسَآء/ نِسَآءَنَا/ نِسَآءَكُم/ نِسَآؤُكُم/ نِسَآئِكُم/ نِسَآئِهِم/ نِسَآءَهُم/ نِسَآئِهِنَّ/ نِسَآئِهِنَّ/ نِسْوَة/

لَفْظُ “النِّسَآءِ” يُشِيِرُ إلَى صِفَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ، مُكْتَسَبَةٍ، تَلحَقُ بِصَاحِبِهَا، فَتُضِيِفُ إلَيْهِ بُعْدًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ مِنَ النَّسْءِ، بِمَعْنَى التَّأخِيِرُ. وَبِالتَالِى فَإِنَّ صِفَةَ “النِّسَآء” تُطْلَقُ عَلَي المُتَأَخِّرِ، وَالَّلاحِقِ. وَكُلُّ حَدِيثٍ وَجَدِيدٍ مُتَأَخِّرٍ فَهُوَ مِنَ النِّسَآءِ. وَنَحْنُ إذَا مَا تَدَبَّرْنَا مَوَارِدَ لَفْظِ “النِّسَآءِ” بِالكِتَابِ، فَسَنَجِدُ أنّهُ ـ بِالأَسَاسِ ـ يَأتِى عَلَى هَذَا الوَجْهِ؛ وَلنَتَنَاوَلَ مَا أوْرَدَهُ اللهُ مِنْهُ، وَهُوَ مُجَرَّدٌ مِنَ الأَشْخَاصِ:

التَّدَبُّرُ الأَوَّلُ: وَهُوَ مَا جَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ‌ٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَ‌ٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلْمَـَٔابِ ﴿١٤﴾ءَال عِمْرَان.

فَالكَثِيِرُونَ يَظُنُّونَ أنَّ المَقْصُودَ بِالنَّاسِ هُنَا هُم الذُّكُورُ، وَأنَّ المَقْصُودَ بِالنِّسَآءِ هُنَا هُم الإنَاثُ (1)، وَأنَّ المَقْصُودَ بِالبَنِيِنِ هُنَا هُم الأوْلاَدُ الذُّكُورُ. وَالحَقِيِقَةُ ـ كَمَا أرَاهَا ـ أنَّهُم فِى كُلِّ ذَلِكَ وَاهِمُونَ؛ وَمَا دَفَعَهُم إلَى القَوْلِ بِذَلِكَ إلاَّ افْتِقَادِهِم لأَصْلِ مَعْنَى لَفْظِ “النِّسَآءِ” (الَّذِى يَعْنِى فِى الأَيَةِ هُنَا المُتَأَخِّرُ)، وَبِأصْلِ مَعْنَى لَفْظِ “البَنِيِنَ” (الَّذِى يَعْنِى فِى الأَيَةِ هُنَا الأبْنِيَةُ)، مَا اضْطَّرَّهُم إلَى إِخْرَاجِ الإنَاثِ مِنَ زُمْرَةِ النَّاسِ، وَأضْحَت الأُنْثَى عِنْدَهُم لاَ تَتَمَتَّعُ بِهَذِهِ الأَصْنَافِ السَبَعَةِ مِنْ مَتَاعِ الحَيَاةِ الدُنْيَا، تَارِكَةً التَّمَتُّعَ لِلذُّكُورِ فَقَط، بَل وَبَقِيَت هِىَ أيْضًا مِنْ هَذَا المَتَاعِ شَأنُهَا شَأنَ الخَيْلِ المُسَوَّمَةِ، وَالأَنْعَامِ!!

وَنَحْنُ إِذَا مَا تَأَمَّلْنَا الأَيَةَ، مِنْ مُنْطَلَقِ الدِّقَّةِ وَالالْتِزَامِ بَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ خُطُواتِ المَنْهَجِ العِلْمِىِّ لِتَنَاوُلِ ءَايَاتِ الكِتَابِ؛ فَسَنَجِدُ أنَّ النَّاسَ هُنَا لَيْسُوا هُم الذُّكُورَ، وَإِنَّمَا هُم كُلُّ النَّاسِ (2)، بِذُكُورِهِم وَإنَاثِهِم، وَذَلِكَ لأسْبَابٍ عِدَّةٍ؛ أذْكُرُ مِنْهَا:

1 ـ أنَّهُ ـ كَمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ دِقَّةِ القُرْءَان ـ لَوْ كَانَ المَقْصُودُ بِالنَّاسِ هُوَ الذُّكُورُ، وَالمَقْصُودُ بِالنِّسَآءِ هُوَ الإِنَاثُ (وَذَلِكَ لِتَوَقُّفِ الأمْرِ عِنْدَ الجِنْسِ فَقَط) لمَاَ قَالَ تَعَالَى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ‌ٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ“، ولقال: “زُيِّنَ لِلذُكُورِ (أوْ لِلرِّجَالِ) حُبُّ الشَهَوَاتِ مِنَ الإِنَاثِ (أوْ النِّسَآءِ)”. وهُوَ غيرُ حَادِثٍ.

2 ـ أنَّ الجَمِيعَ مُزَيَّنٌ لَهُ حُبُّ السَبْع شَهَوَاتٍ المَذْكُورَةِ فِى الأَيَةِ لِلسَبْعِ أمْتِعَةٍ، وَلاَ يَقُولُ عَاقِلٌ بِاخْتِصَاصِ الذُّكُورِ فَقَط بِهَذَا الحُبِّ.

3 ـ أنَّ الأَيَةَ تَتَنَاولُ أصْنَافًا سَبَعَةً مِنْ أَصْنَافِ مَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، الَّتِى خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى مَتَاعًا لِلنَّاسِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى فِيِهِم: “ذَ‌ٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا“، وَمِنْ غَيْرِ المَقْبُولِ عِنْدَ العُقَلاَءِ وَالعَالِمِيِنَ بِكِتَابِ اللهِ أنْ تُدْرَجَ المَرْأةَ ضِمْنَ هَذَا المَتَاع، كَمَا لَوْ أنَّهَا خُلِقَت خِصِّيِصًا لإمْتَاعِ الذَّكَرِ، وَلِذَا تُدْرَجُ (بِالنِّسْبَةِ لَهُ) مَعَ الخَيْلِ المُسَوَّمَةِ، وَالأَنْعَامِ، مِثْلُهَا مِثْلَهُم.

4 ـ أنَّ الحَدِيثَ عَنِ الشَهَوَاتِ يُفْتَرَضُ فِيِهِ أنْ يَتَنَاوَلَ الشَّهَوَاتِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الطَرَفَيْنِ، فَلَوْ قُلْنَا أنَّ المَقْصُودَ بِشَهْوَةِ النِّسَآءِ (كَمَتَاعٍ لِلحَيَاةِ الدُنْيَا، وَهُوَ خَطَأ) هُوَ شَهْوَةُ الجِنْسِ وَالجِمَاعِ عِنْدَ الذَّكَرِ تِجَاهَ الأُنْثَى؛ فَسَنَجِدُ أنَّ النِّسَآءَ هُنَّ أَيْضًا يَشْتَهِيِنَ الرِّجَالَ كَمَا يَشْتَهِيِهُم الرِّجَالُ؛ فَعَلاَمَ التَخْصِيِصُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَلاَ مُفِيِدٍ؟!

5 ـ أنَّ الأَيَةَ تَتَنَاولُ مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمِنْ غَيْرِ المَقْبُولِ أيْضًا عِنْدَ العُقَلاَءِ وَالعَالِمِيِنَ بِكِتَابِ اللهِ أنْ يُدْرَجَ البَنِيِنَ (بِمَعْنَى الأَوْلاَدِ الذُّكُورِ) ضِمْنَ هَذَا المَتَاع، كَمَا لَوْ أنَّهُم قَدْ خُلِقُوا خِصِّيِصًا لإمْتَاعِ الذَّكَرِ، وَلِذَا فَقَدْ أُدْرِجُوا (بِمَعْنَى الأَبْنِيَةِ) مَعَ الخَيْلِ المُسَوَّمَةِ، وَالأَنْعَامِ، وَالحَرْثِ، ..الخ مِثْلاً بِمِثْلِ.

6 ـ أنَّهُ بِفَرْضِ أنَّ لَفْظَ البَنِيِنِ هُنَا يَعْنِى الأوْلاَدَ الذُّكُورَ، فَسَتَكُونُ مَسْألَةُ تَزْيِيِنِهِم لِلنَّاسِ مُقَسَّمَةً بَيَنَ الأَبَاءِ الذُّكُورِ وَالأُمَهَاتِ الإِنَاثِ، لاَ أنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى الأَبَاءِ الذُّكُورِ فَقَط، وَهُوَ غَيْرُ حَادِثٍ هُنَا عِنْدَ مَنْ قَالُوا إنَّ المَقْصُودَ بِلَفْظِ النَّاسِ هُمْ الذُّكُور.

7 ـ وَلَوْ قُمْنَا بِمُرَاجَعَةِ لَفْظَ “مَتَاع” الوَارِد فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: “ذَ‌ٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا“، لَوَجَدْنَا أنَّهُ خَاصٌّ بِمَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لِيَسْتَفِيِدَ مِنْهُ الإِنْسَآنُ عُمُومًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أوْ أُنْثَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى بِسُورَةِ الزُّخْرُف:

وَلَوْلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَ‌ٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍۢ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴿٣٣﴾ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَ‌ٰبًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـُٔونَ ﴿٣٤﴾ وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَ‌ٰلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَٱلْأَخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٣٥﴾“.

وَالخِطَابُ هُنَا يَتَنَاوَلُ مَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَان، ذَكَرًا كَانَ أوْ أُنْثَى. وَالفِضّةُ، وَالبُيُوتُ، والسُرُرُ، وَالزُخْرُفُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَكْفُرُ، شَأنُهَا شَأنَ البَنِيِنِ (الأَبْنِيَةِ)، وَالقَنَاطِيِرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ، وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ، وَالأَنْعَامِ، وَالأَحْدَثِ مِنَ المَصْنُوعَاتِ. وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:

لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍۢ فِيهَا مَتَـٰعٌ لَّكُمْ ۚ..﴿٢٩﴾“.

فَالمَتَاعُ هُنَا مَشْحُونٌ فِى البُيُوتِ، وَهُوَ مَحَلُّ اسْتِفَادَةٍ (3). بَلْ إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَالَ عَن الدُّنْيَا كُلِّهَا إنَّهَا مَتَاعٌ، وَلَكِنَّهَا مَتَاعُ الغُرُورِ:

.. وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ ﴿١٨٥﴾ءَال عِمْرَان.

كُلَّ ذَلِكَ المَتَاع المَادِّىّ، جُعِلَ حُبُّهُ مُشْتَهًى مِنَ النَّاسِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الجِنْسِ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ اسْتِبْعَادُ ثَلاَثَة أرْبَاعِ (4) النَّاس مِنَ الاسْتِمْتَاعِ، بَلْ وَجَعْل ثُلُثَيْهِمَا هُمَا أنْفُسُهُمَا مِنَ المَتَاعِ؟!

8 ـ وَلَوْ قُمْنَا بِمُرَاجَعَةِ لَفْظَ البَنِيِن لَوَجَدْنَا أنَّهُ إذَا مَا جَآءَ فِى سِيَاقِ المَادِّيَّاتِ فَهِىَ الأبْنِيَة بكُلِّ أَنْوَاعِهَا مِن بُيُوتٍ، وَقُصُورٍ، وَعِمَارَاتٍ، . . الخ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُعَرَاءِ:

وَٱتَّقُوا ٱلَّذِىٓ أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ ﴿١٣٢﴾ أَمَدَّكُم بِأَنْعَـٰمٍۢ وَبَنِينَ ﴿١٣٣﴾ وَجَنَّـٰتٍۢ وَعُيُونٍ ﴿١٣٤﴾“.

وَلَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أوْ المَقْبُولِ أنْ يُقَالَ بِأنَّ المَقْصُودَ هُنَا بِالبَنِيِنِ هُم الأوْلاَدُ، ثُمَّ هُم مُدْرَجُونَ مَع الأَنْعَامِ، بَل وَبَعْدِهَا تَرْتِيِبًا (5).

فَالنِّسَآءُ ـ إذًا ـ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ‌ٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ“، تَعْنِي المُتَأَخِّرُ (الأَحْدَثُ) مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالنَّاسُ كُلُّهُم يَشْتَرِكُونَ فِي حُبِّ المُتَأَخِّر (الأَحْدَث) مِنَ الأَشْيَاءِ، سَوَاءٌ فِي الأَجْهِزَةِ، وَالاخْتِرَاعَاتِ، أَوْ المَلاَبسِ (المُوضَة)، وَهَكَذَا.

وَالبَنِيِنُ ـ إذًا ـ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: “وَٱلْبَنِينَ“، تَعْنِي الأَبْنِيَةُ، بكُلِّ أَنْوَاعِهَا مِن بُيُوتٍ، وَقُصُورٍ، وَعِمَارَاتٍ، . . الخ. وَالنَّاسُ كُلُّهُم يَشْتَرِكُونَ فِي حُبِّ الأَبْنِيَةُ، بكُلِّ أَنْوَاعِهَا.

هَذِهِ الأَيَةُ (وَغَيْرُهَا مِنَ الأَيَاتِ) كَانَت المُفْتَاحَ لِفَهْمِ مَعْنَى لَفْظِ “النِّسَآءِ”، والسَّبَبِ فِى وَصْفِ الكَثِيِرِ مِنَ الإِنَاثِ بِالنِّسَآءِ، وَكَذَلِكَ بَعْضِ الذُّكُورِ بِهِ. فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَفْظَ “النِّسَآء” فِى مَوَاضِعٍ كَثِيرَةٍ بِكِتَابِهِ العَزِيِز، تَنَوَّعَت فِيِهَا المَعَانِى، وَإنْ تَوَحَّدَ أصْلُهَا، وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيِلٍ يَأتِى.

التَّدَبُّرُ الثَّانِى: وَهُوَ مَا جَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىٓ أَوْلَـٰدِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَ‌ٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَ‌ٰحِدٍۢ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ ۚ مِنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ۗ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿١١﴾النِّسَآء.

إِذْ سَنَتَوَقَّفُ مُضْطَرَّيِنَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: “.. ٱلْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءً، الَّذِى يُبَيِّنُ بِكُلِّ وُضُوحٍ أنَّ الأُنْثَيَيْنِ كَانَ مِنَ المُمْكِنِ أنْ يَكُنَّ إنَاثًا فَقَط، دُونَ أنْ يَكُنَّ مِنَ النِّسَآءِ؛ أوْ يَكُنَّ إِنَاثًا نِسَآءً. فَإنْ كُنَّ أُنْثَيَيْنِ فَقَط، دُونَ أنْ يَكُنَّ مِنَ النِّسَآءِ؛ فَيَكُونُ لَهُمَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِمَا كَأُنْثَيَيْنِ (6)، أوْ أنْ يَكُنَّ مِنَ النِّسَآءِ، فَيَكُونُ لَهُمَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِمَا كَنِسَآءٍ (7). وَهُوَ تَنْبِيِهٌ قَوِىٌّ جِدًا لِمُلاَحَظَةِ الفَرْق بَيْنَ الإِنَاثِ، وَبَيْنَ النِّسَآءِ.

التَّدَبُّرُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا جَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

ٱلرِّجَالُ قَوَّ‌ٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَ‌ٰلِهِمْ ۚ .. ﴿٣٤﴾النِّسَآء.

فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ القَوَامَةَ لِلطَرَفَيْنِ بِحَسْبِ مَوْقِعِ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ إِذْ أَنَّ التَّفْضِيلَ يَقَعُ لِمَنْ يَرْجَلُ طَلَبًا لِلرِّزْقِ (ذَكَرًا كَانَ أمْ أُنْثَى)، عَلَي مَنْ يَتَأخَّرُ، وَيَنْسَأُ (ذَكَرًا كَانَ أمْ أُنْثَى)، حَيْثُ يَتَكَفَّلُ الرِّجَالُ بِالنِّسَآءِ (بِغَضِّ الطَرَفِ عَنِ الجِنْسِ)، إذْ التَّفْضِيِلُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّزْقِ ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلرِّزْقِ ۚ .. ﴿٧١﴾النَّحْل (8).

ولِذَا قَالَ: “بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ“، بِاعْتِبَار حَالَةِ الرَّجْلِ وَالنَّسْءِ (ٱلرِّجَالُ قَوَّ‌ٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ)، لاَ بِاعْتِبَارِ الجِنْسِ. وَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى بِنَفْسِ الأَيَةِ:

بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَ‌ٰلِهِمْ ۚ“.

فَالتَفْضِيِلُ كَانَ فِى الرِّزْقِ أوْلاً، ثُمَ تَبِعَهُ الإِنْفَاقُ، وَمِنْ هُنَا جَاءَت القَوَامَةُ. وَبِالتَالِى فَلَوْ كَانَ التَفْضِيِلُ للأُنْثَى، وَأنْفَقَت عَلَى الذَّكَرِ فَالقَوَامَةُ لَهَا، وَالعَكْسُ صَحِيِحٌ، وَهُوَ الغَالِبُ، إذْ الذُّكُورُ هُم عَلَى الأَغْلَبُ الَّذِيِنَ يَسْعَوْنَ فِى طَلَبِ الرِّزْقِ، وَهُم الَّذِيِنَ يُنْفِقُونَ، وَلِذَا صَارَت القَوَامَةُ لَهُم (9).

التَّدَبُّرُ الرَّابِعُ:

وَهُوَ مَا جَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَ‌ٰنِهِنَّ أَوْ بَنِىٓ إِخْوَ‌ٰنِهِنَّ أَوْ بَنِىٓ أَخَوَ‌ٰتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيْرِ أُولِى ٱلْإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَ‌ٰتِ ٱلنِّسَآءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوٓا إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٣١﴾النُّور.

فَسَنَجِدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: “أَوْ نِسَآئِهِنَّ“، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: “نِسَآؤُكُمْ“، “نِّسَآئِهِمْ“، “نِسَآئِكُمْ“، وَلَكِنَّهُ هُنَا سَيَخْتَلِفُ فِى المَعْنَى:

إذْ يَعْنِى ضَرُورَةً أنَّ المُؤْمِنَةَ (وَالَّتِى هِىَ مِنَ الإِنَاثِ مِنْ نَاحِيَةِ الجِنْسِ) لَهَا نِسَآءٌ (مِنْ نَاحِيَةِ الحَالَةِ)، تُعْتَبَرُ هِىَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِم مِنْ رِجَالِهِم، أوْ كُلَّ رِجَالِهِم (بِحَسْبِ الوَضْعِ).

وَيَعْنِى كَذَلِكَ أَنَّ النِّسَآءَ هُنَا لاَ يُقْصَدُ بِهِم الإِنَاثُ، كَمَا فِى بَقِيَّةِ الأَيَاتِ الَّتِى تَنَاوَلَت النِّسَآءَ كَإِنَاثٍ، كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى:

نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ“،

لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ“،

وَٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ“،

وَٱلَّـٰٓـِٔى يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ“:

إذْ كَيْفَ سَيَكُونُ لِلنِّسَآءِ (المُؤْمِنَاتِ) نِسَآءٌ، بِمَعْنَى أنْ يَكُونَ للمَرْأَةِ (المُؤْمِنَةِ) إمْرَأَةً مِنَ الإِنَاثِ (نِسَآءٌ)؟!!

التَّدَبُّرُ الخَامِسُ:

وَهُوَ مَا جَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ نِسَآءَ النَّبِىِّ، وَيَنُصُّ عَلَى عَدَمِ التَّعَامُلِ مَعَهُنَّ إِلاَّ مِنْ وَرَآءِ حِجَابٍ، فَاسَثْنَى سُبْحَانَهُ مَنْ اسْتَثْنَى، وَمِنْهُم نِسَآءَ نِسَآءِ النَّبِىِّ:

لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىٓ ءَابَآئِهِنَّ وَلَآ أَبْنَآئِهِنَّ وَلَآ إِخْوَ‌ٰنِهِنَّ وَلَآ أَبْنَآءِ إِخْوَ‌ٰنِهِنَّ وَلَآ أَبْنَآءِ أَخَوَ‌ٰتِهِنَّ وَلَا نِسَآئِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ ۗ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدًا ﴿٥٥﴾الأَحْزَاب.

هُنَا؛ سَيَنْصَرِفُ المَعْنَى ضَرُورَةً لِلنِّسَآءِ، بِمَعْنَى المُلْتَصِقِيِنَ لِتَبَعِيَّتِهِم، أَيًّا كَانَت دَرَجَةُ قَرَابَتِهِم، وَعَجْزِهِم، وَتَأَخُّرِهِم، وَبِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ جِنْسِهِم، ذُكُورُا كَانُوا أمْ إنَاثًا؛ وَعَنْ أعْمَارِهِم؛ صِغَارًا كَانُوا أمْ كِبَارًا، حَيْثُ تُمَثِّلُ المَرْأةُ المُؤْمِنَةُ لَهُم؛ رَجُلَهُم، الَّذِى يَسْعَى عَلَيْهِم، وَيُؤَمِّنُ لَهُم نَفَقَاتِهِم، وَحَيَاتَهُم المَعِيِشِيَّةِ.

إذًا ـ وَلِكُلِّ مَا سَبَقَ ـ فَلَفْظُ “النِّسَآءِ” لاَ عِلاَقَةَ لَهُ بِالجِنْسِ (عَكْسُ لَفْظِ الإنَاثِ) (10)، وَإنَّمَا يُشِيِرُ لَفْظُ “النِّسَآء” إلَى حَالٍ يَلْحَقُ بِالإنْسَانِ فَيَصِيِرُ بِهِ هَكَذَا؛ مُثْقَلاً، مُتَأَخِّرًا.

وَيُقَابِلُ لَفْظَ النِّسَآءِ لَفْظُ: “الرِّجَال“، الَّذِى عَرِفْنَا أنَّهُ يُشِيِرُ إلَى حَالٍ يَلْحَقُ بِالإنْسَانِ فَيَصِيِرُ بِهِ هَكَذَا؛ مُتَقَدِّمًا، خَفِيِفًا فِى حَرَكَتِهِ، قَادِرًا (11)، وَإنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهِمَا عِلاَقَةٌ غَيْرُ مُبَاشِرَةٍ بَالجِنْسِ مِنْ حَيْثُ غَلَبِةِ الصِّفَةِ عَلَيْهِمَا:

فَالإِنَاثُ يَغْلُبُ عَلَيْهِنَّ النَّسْءُ، وَالتَّأخِيِرُ وَالإثْقَالُ، وَثِقَلُ الحَرَكَةِ، وَثِقَلُ القُدْرَةِ، مَا يُقَلِّلُ مِنْ حِيلَتِهِنَّ، وَيُضْعِفُهُنَّ، وَيَجْعَلُهُنَّ مِنَ المُتَأخِّرَاتِ لُزُومًا، وَلِذَا فَإنَّ أغْلَبَهُنَّ مِنَ النِّسَآءِ. بَيْنَمَا يَغْلُبُ عَلَي الذَّكَرِ؛ التَقَدُّمُ، وَالخِفَّةُ، وَالقُوَّةُ، وَالقُدْرَةُ عَلَى الحَرَكَةِ، مَا يَجْعَلُهُ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ؛ وَلِذَا فَإنَّ أغْلَبَ الذُّكُورِ مِنَ الرِّجَالِ؛ وَذَاكَ لِطَبِيعَةِ خِلْقَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا. فَالمَرْأةُ أضْعَفُ بِنْيَةً، مَا يَجْعَلُ الذَّكَرَ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا فِى طَلَبِ الرِّزْقِ المُعْتَمِدِ عَلَى البِنْيَةِ، فَضْلاً عَنْ أنَّهَا تَحِيِضُ، وَتَضْعُفُ إبَانَ ذَلِكَ فِيِمَا يَقْرُبُ مِنْ رُبْعِ أوْ خُمْسِ حَيَاتِهَا الإنْجَابِيَّةِ، فَضْلاً عَنْ فَتَرَاتِ حَمْلِهَا، وَإرْضَاعِهَا أوْلاَدِهَا، وَفَضْلاً عَنْ سِنَى رِعَايَتِهَا لَهُم، وَقِيَامِهَا عَلَى خَدْمَتِهِم، مَا يُلْزِمُهَا بَيْتَهَا فِى مُعْظَمِ أوْقَاتِهَا، وَيَجْعَلُ مُعْظَمَهُنَّ مِنَ النِّسَآءِ، وَذَلِكَ بِعَكْسِ الذَّكَرِ الَّذِى يَتَحَرَّكُ، وَيَتَقَدَّمُ فَيَرْجَلُ، وَيَضْرِبُ فَى الأَرْضِ، يَبْتَغِى مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرِزْقِهِ، مَا يَجْعَلُهُ مِنَ الرِّجَالِ عَلَى الأَغْلَبِ أيْضًا.

كَذَلِكَ؛ فَالإنَاثُ وَإنْ غَلَبَ عَلَيْهِنَّ أنَّهُنَّ مِنَ النِّسَآءِ، إلاَّ أنَّهُنَّ لَسْنَ كُلَّهُنَّ نِسَآءً، وَلَسْنَ كُلَّ النِّسَآءِ (12)، وَإنَّمَا يَلْحَقُ بِهِنَّ أصْنَافٌ أُخْرَى مِنَ النِّسَآءِ، كَالأَيْتَامِ، والسُّفَهَآءِ، وَالمُعَاقِيِنَ، والمَرْضَى مَرَضًا مُقْعِدًا، وَلَوْ عَلَى سَبِيِلِ التَأقِيِتِ، كَمَا أنَّ الذُّكُورَ وَإنْ غَلَبَ عَلَيْهِم أنَّهُم مِنَ الرِّجَالِ، إلاَّ أنَّهُم لَيْسُوا كُلَّ الرِّجَالِ (13)، إذْ يَلْحَقُ بِهِم (كَرِجَالٍ) بَعْضُ الإنَاثِ.

وَلِعَلَّ أبْرَزُ مَا يُوَضِّحُ مَا نَقُولُهُ هُنَا؛ هُوَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ خَصَّصَ سُورَةً كَامِلَةً مِنْ كِتَابِهِ الكَرِيِم جَعَلَهَا لِلنِّسَآءِ، لاَ لِلإِنَاثِ.

وَافْتَتَحَهَا بِالأَيَةِ الأُولَى الَّتِى يَقُولُ فِيِهَا سُبْحَانَهُ؛ مُمَهِّدًا لِمَا سَيَأتِى بِهَا مِنْ أحْكَامٍ، وَأحْوَالٍ، تَخُصُّ كُلاًّ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَآءِ (بِصِفَتِهِم، وَبِجِنْسِهِم، بِغَيْرِ حَصْرٍ، وَلاَ تَطَابُقٍ):

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَ‌ٰحِدَةٍۢ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿١﴾النِّسَآء.

فَاللهُ تَعَالَى بَدَأ بِمُخَاطَبَةِ النَّاس “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ“، ءَامِرًا إيَّاهُم بِاتِّقَاءِ رَبِّهِم، الَّذِى خَلَقَهُم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْ كِلَيْهِمَا (مُجْتَمِعَيْنِ) الكَثِيرَ مِنَ الرِّجَالِ؛ وَهُم: المُتَقَدِّمِيِنَ وَالمُتَقَدِّمَاتِ، وَالقَادِرِينَ وَالقَادِرَاتِ، وَكَذَلِكَ الكَثِيرَ مِنَ النِّسَآءِ؛ وَهُم: المُتَأخِّرُونَ وَالمُتَأخِّرَاتِ، وَالضَعِيِفُونَ وَالضَعِيفَاتِ، وَالَّذِيِنَ تَرْبِطُهُم ـ جَمِيعًا ـ الأَرْحَامُ، وَالعِلاَقَاتُ، ثُمَّ أعَادَ عَلَيْهِم أمْرَهُ بِالتَقْوَى، حَتَّى لاَيَظْلِمُ القَوِىُّ القَادِرُ مِنْهُم الضَعِيفَ، وَلاَ يَجُورُ المُتَقَدِّمُ عَلَى المُتَأخِّرِ، وَلاَ يَحِيِفُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَآءِ، مُذَكِّرًا إيَّاهُم بِأنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِم رَقِيِبٌ.

إذًا فَقَدْ تَأكَّدْنَا بَعْدَ مُنَاقَشَةِ مَا سَبَقَ مِنْ أنَّهُ لَوْ أرَادَ اللهُ تَعَالَى أنْ يَقُولَ أنَّهُ بَثَّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ؛ الجِنْسَيْنِ؛ لَقَالَ:

“وَبَثَّ مِنْهُمَا ذُكُورًا كَثِيرًا وَإِنَاثًا”.

وَذَلِكَ كَمَا قَالَ فِى مَوْضِعٍ ءَاخَر: “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ..“!!

وَلَكِنْ عَلِمْنَا الأَنَ أنَّهُ سُبْحَانَهُ نَصَّ هُنَا عَلَى الرِّجَالِ، والنِّسَآءِ، لِمُقْتَضَى الحَالِ فِى السُّورَةِ، الَّتِى سَتُنَظِّمُ العِلاَقَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ (الأَقْوَى وَالأَقْدَرُ)، وَبَيْنَ النِّسَآءِ (الأَضْعَفُ وَالأَقَلُّ حِيلَةً)، بِالمَعْنَى السَابِقِ شَرْحُهُ.

أيْضًا فَبَعْدَ أنْ فَهِمْنَا الأَنَ مَعْنَى النِّسَآءَ عَلَى حَقِيِقَتِهِ؛ فَقَدْ فَهِمْنَا بِالتَبَعِيَّةِ أنَّ هَذِهِ الافْتِتَاحِيَّةَ لِلسُورَةِ، جَآءَت بِهَذِهِ الصِيَاغَةِ الرَّائِعَةِ؛ لِتَتَنَاسَبَ مَع مُوْضُوعِ السُورَةِ، الَّتِى سَتُنَظِّمُ العِلاَقَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ (بِغَضِّ النَّظَرِ عَن الجِنْسِ)، القَادِريِنَ، المُتَقَدِّمِيِنَ، وَبَيْنَ النِّسَآءِ (بِغَضِّ النَّظَرِ عَن الجِنْسِ)، المُثْقَلاَتِ، المُتَأخِّرَاتِ؛

وَلِذَا فَقَدْ كَانَ أوَّلُ مِنْ ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ النِّسَآءِ فِى السُورَةِ؛ هُم الأيْتَامُ (بِاعْتِبَارِهِم مِنَ النِّسَآءِ)؛ فَقَالَ فِى الأَيَةِ الثَانِيَةِ مُبَاشَرَةً:

وَءَاتُوا ٱلْيَتَـٰمَىٰٓ أَمْوَ‌ٰلَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَ‌ٰلَهُمْ إِلَىٰٓ أَمْوَ‌ٰلِكُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢﴾النِّسَآء.

حَيْثُ أنَّ الأَيْتَامَ هُم مِنْ أشَدِّ حَالاَتِ النَسْءِ، وَالتَّأخُّرِ، والضَّعْفِ؛ وَلِذَا بَدَأت السُورَةُ بِهِم. وَمِنْ المُسَلَّمِ بِهِ أنَّ الأَيْتَامَ مِنْهُم ـ جِنْسًا ـ الذُّكُورُ، وَمِنْهُم الإِنَاثُ. وَلَكِنْ كُلاًّ مِنْهُمَا ـ حَالَةً ـ هُوَ فِى الحَقِيقَةِ مِنَ النِّسَآءِ. حَيْثُ يُمَثِّلُ صِغَرُ السِّنِ، وَغِيَابُ الرُّشْدِ عَائِقًا لَهُم عَنْ أنْ يَكُونُوا مِنَ الرِّجَالِ. فَإِذَا مَا كَبَرُوا، وَأُنِسَ مِنْهُم الرُّشْدُ فَسَيَنْتَقِلُوا (ذُكُورًا كَانُوا أمْ إنَاثًا) مِنَ النَّسْءِ المُتَعَلِّقِ بَاليُتْمِ إلَى الرَّجْلِ وَالنَّسْءِ لِلذُّكُورِ، وَإلَى الرَّجْلِ وَالنَّسْءِ المُتَعَلِّقِ بالأُنُوثَةِ لِلإِنَاثِ، عَلَى تَفْصِيِلٍ سَنَلِجُهُ فِى السُّطُورِ القَادِمَةِ.

كَذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ رَجُلٍ (ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى) كَانَ مِنَ النِّسَآءِ يَوْمًا مَا ــ لُزُومًا ــ قِبْلَ أَنْ يَكْبُرَ بِحَسَبِ سِنِّهِ وَظُرُوفِهِ.

وَهَكَذَا؛ وَبِهَذَا الفَهْمِ، يَحِلُّ المَنْطِقُ عَلَى إيْرَادِ الأَيَاتِ، بِهَذَا التَرْتِيِبِ الرَّائِعِ، الَّذِى ظَلَّ قُرُونًا وَهُوَ مَجْهُولٌ لِلكَثِيِرِينَ الَّذِيِنَ لَمْ يُكَلِّفُوا أنْفُسَهُم عَنَآءَ التَّدَبُّرِ.

بَقِىَ أنْ نَقُولَ إنَّ تَوْجِيْهَ المَعْنَى إنَّمَا يَكُونُ بِحَسْبِ السِّيَاقِ، فَعِنْدَمَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى ـ مَثَلاً ـ:

وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُوا ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ ..﴿٢٢٢﴾البَقَرَة.

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍۢ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ ..﴿٢٣١﴾البَقَرَة.

فالمَعْنَى يَتَوَجَّهُ إلَى الإنَاثِ، بِعَكْسِ الأَمْرِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى السَّابِقَ شَرْحَهُ:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ‌ٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَ‌ٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ .. ﴿١٤﴾ءَال عِمْرَان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يَقُولُ القُرْطُبِىُّ فِى تَفْسِيِرِهِ (4/29): “قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنَ النِّساءِ) بَدَأَ بِهِنَّ لِكَثْرَةِ تَشَوُّفِ النُّفُوسِ إِلَيْهِنَّ، لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَةُ الرِّجَالِ“.

وَيَقُولُ السَّمَرْقَنْدِىُّ فِى تَفْسِيِرِهِ بَحْرِ العُلُومِ (1/246): “بدأ بالنساء، لأن فتنة النساء أشد من فتنة جميع الأشياء“.

وَيَقُولُ ابْن كَثِيِر فِى تَفْسِيِرِهِ (2/19): “يخبر تعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد“.

2 ـ وَهُوَ كَمَا أوْرَدَ اللهُ تَعَالَى لَفْظَ النَّاس، لِيَشْمَلَ كُلَّ النَّاسِ بِهِ:

۞ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِىَ مَوَ‌ٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ ۗ .. ﴿١٨٩﴾البَقَرَة.

۞ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ ..﴿٢١٩﴾البَقَرَة.

3 ـ وَهُوَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: “..وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـٰعِنَا ..﴿١٧﴾يُوسُف.

..وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَ‌ٰحِدَةً ۚ..﴿١٠٢﴾النِّسَآء.

قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَـٰعَنَا عِندَهُۥٓ ..﴿٧٩﴾يُوسُف.

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا فِى ٱلْبِلَـٰدِ ﴿١٩٦﴾ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ..﴿١٩٧﴾ءَال عِمْرَان.

4 ـ وَذَلِكَ بِاعْتبَارِ أنَّ الإنَاثَ يُشَكِّلْنَ نِصْفَ المُجْتَمَعِ (تَقْدِيِرًا)، والأَوْلاَدَ الذُّكُورَ يُمَثِّلُونَ الرُّبْع (تَقْدِيِرًا أيْضًا).

5 ـ وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى فِى سُوَرِ الكَهْفِ، وَالإِسْرَآءِ، وَنُوحٍ؛ وَفِيِهِ:

ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱلْبَـٰقِيَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴿٤٦﴾“.

..ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوَ‌ٰلٍۢ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴿٦﴾“.

..يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴿١١﴾ وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَ‌ٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍۢ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَـٰرًا ﴿١٢﴾“.

6 ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنثَيَيْنِ“.

7 ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: “فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَ‌ٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ ۚ“.

8 ـ وَطَلَبُ الرِّزْقِ يَحْتَاجُ إلَى الرَجْلِ وَالسَعْىِّ وَالانْتِشَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: “فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُوا فِى ٱلْأَرْضِ وَٱبْتَغُوا مِن فَضْلِ ٱللَّهِ .. ﴿١٠﴾الجُمُعَة.

..وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى ٱلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ ۙ .. ﴿٢٠﴾المُزَّمِل.

9 ـ يَقُولُ شَحْرُور فِى كِتَابِهِ: “الكتاب والقرآن” ص 620:

بدأت الآية 34 بصيغة الخبر: (الرجال قوامون على النساء) هنا وضع علاقة موضوعية بأن الرجال لهم القوامة على المرأة“.

فَجَعَلَ النِّسَآءَ هِىَ المَرْأةُ، فَأنْعِم بِهِ مِنْ تَعَالُمٍ، وَجَهْلٍ، وَأكْرِم، وبِالطَبْعِ فَإنَّ كُلَّ مَا بَنَاهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ خُرَافِىٌّ، وَهْمِىٌّ، كَأنْ يَقُولُ بَعْدَهَا:

وذكر القوامية بين الرجال والنساء ولم يذكر القوامية بين المؤمنين والمؤمنات أي لم يقل “المؤمنون قوامون على المؤمنات لذا فإن هذا الخبر يجب أن يكون صادقا في كل أنحاء الأرض ولذلك ذكر علة القوامية، وبما أنه ذكر علة القوامية فبذهاب العلة يذهب المعلول وبتبديل العلة يبدل المعلول..!!!

10 ـ وَلَفْظُ الرِّجَالِ لاَ عِلاَقَةَ لَهُ أيْضًا بِالجِنْسِ (عَكْسُ لَفْظِ الذُّكُور).

11 ـ وَلاَ يَتَطَابَقُ لَفْظُ “الرِّجَال” فِى المَعْنَى أيْضًا مَع لَفْظِ “الذُّكُورِ”.

12 ـ إذْ إنَّ هُنَاكَ مِنَ الذُّكُورِ مَنْ هُوَ لِظُرُوفِهِ مِنَ النِّسَآءِ.

13 ـ إذْ إنَّ هُنَاكَ مِنَ الإنَاثِ مَنْ هُنَّ لِظُرُوفِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ.

تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ مَوْضُوعُ النِّسَآء.

.

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x