.
عِنْدَمَا ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النِّكَاحَ (عُمُومًا)، شَمَلَتْ أحْكَامُهُ نِكَاحَ يَتَامَى النِّسَآءِ (خُصُوصًا)، فَقَالَ تَعَالَى:
“وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا۟ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُوا۟ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ ۖ..﴿٣﴾“النِّسَآء.
وَقَدْ حَارَت الأَفْهَامُ فِى عَقْلِ اليَتَامَى فِى الأَيَةِ: “..وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا۟ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُوا..“، فَقَالُوا: مَا العِلاَقَةُ بَيْنَ اليَتَامَى وَالنِّكَاحِ؟! بِرَغْمِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ بَعْدَهَا:
“..يَتَـٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِى لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ..﴿١٢٧﴾“النِّسَآء.
فَبَيَّنَ أَنَّ اليَتِيِمَةَ تُنْكَحُ (عَلَى تَفْصِيِلٍ بِالأَيَاتِ كَمَا سَيَأتِى). هَذَا وَقَدْ جَآءَ ذِكْرُ يَتَامَى النِّسَآءِ بِتَفْصِيلٍ عَلَى مَدَى ءَاياتٍ بَيِّنَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَآءِ، قَالَ اللهُ فِى أُولاَهِنَّ:
“وَءَاتُوا۟ ٱلْيَتَـٰمَىٰٓ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا۟ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوٓا۟ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰٓ أَمْوَٰلِكُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًۭا كَبِيرًۭا ﴿٢﴾” النِّسَآء.
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِى مَوْضِعٍ ءَاخَرٍ مِنَ السُّورَةِ أنَّ إِيِتَاءِ اليَتَامَى أمْوَالَهُم قَدْ لاَ يَحْدُثُ بِرَغْمِ بُلُوغِ بَعْضِهِم مَبْلَغَ النِّكَاح؛ فَقَالَ:
“وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنِّسَآءِ ۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ فِى يَتَـٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِى لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ..﴿١٢٧﴾“النِّسَآء.
وَقَدْ فَصَّلَتَ الأَيَةُ رَقْم “6” عِلَّةَ قَوْلِهِ تَعَالَى السَابِق بِعَدَمِ إتْيَانِ يَتَامَى النِّسَآءِ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُنَّ: “يَتَـٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِى لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ“، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا:
“وَٱبْتَلُوا۟ ٱلْيَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُوا۟ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًۭا فَٱدْفَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًۭا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا۟ ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّۭا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًۭا فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُوا۟ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًۭا﴿٦﴾“النِّسَآء.
فَتَبَيَّنُ أنَّ المَانِع مِنْ إيِتَاءِ النِّسَآءِ اليَتِيِمَاتِ (والأيْتَام عُمُومًا) أمْوَالَهُم هُوَ غِيَابُ الرُّشْدِ، إذْ يُبَيُّنُ اللهُ تَعَالَى فِى الأَيَاتِ أنَّهُ هُنَاكَ نُقْطَتَىِّ تَحَوُّلِ فِى حَيَاةِ اليَتِيمِ:
أُولاَهُمَا أنْ يَبْلُغَ اليَتِيمُ مَبْلَغَ النِّكَاحِ.
وَثَانِيهُمَا أنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدٌ.
فَالنُقْطَةِ الأُولَى تُؤَهِلُ اليَتِيِمَ لِلنِّكَاحِ، وَإنْ ظَلَّ يَتِيِمًا طَالَمَا لَمْ يَبْلُغَ الرُّشْدَ، بَيْنَمَا الثَانِيَةُ هِىَ الَّتِى يَنْتَهِى مَعَهَا اليُتْمُ؛ وَمِنْ ثَمَّ فَإنَّ مَنْ يَبْلُغَ النِّكَاحَ مِنَ الأَيْتَامِ فَهُوَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ قَدْ أُنِسَ مِنْهُ رُشْدٌ أوْ لاَ يَكُون: “حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُوا۟ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًۭا”، فَإنْ لَمْ يُؤْنَسُ مِنْهُ رُشْدٌ فَسَيَظَلُّ يَتِيمًا بِرَغْمِ بُلُوغِهِ مَبْلَغَ النِّكَاحِ، وَإنْ تَزَوَّجَ أوْ تَزَوَّجَت. وَلاَ يُؤْتَى اليَتِيِمُ مَالَهُ الَّذِى كَتَبَهُ اللهُ لَهُ (كَمَا فِى قَوْلِهِ السَّابِقِ: وَءَاتُوا۟ ٱلْيَتَـٰمَىٰٓ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ) مَا دَامَ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ بَعْدُ.
أمَّا إذَا مَا أُنِسَ مِنَ اليَتِيمِ رُشْدٌ (وَهَذِهِ هِىَ النُقْطَةُ الثَّانِيَةِ) فَقَدْ حَانَ وَقْتُ مُغَادَرَةِ صِفَةَ اليُتْمِ لَهُ، وَعَلَى المُؤْتَمَنِ عَلَى أمْوَالِهِ أنْ يُسَلِّمَهُ إيَّاهَا لَقَوْلِهِ تَعَالَى السَابِقِ: “فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًۭا فَٱدْفَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ“. فَاليُتْمُ إذَا يَنْقَضِى بِبُلُوغِ الرُشْدِ، وَلاَ يَنْقَضِى بِبُلُوغِ النِّكَاحِ، وَمِنْ هُنَا جَاءَت: “يَتَـٰمَى ٱلنِّسَآءِ“. أضِف إلَى مَا سَبَقَ أنَّ النَّصَ جَاءَ أيْضًا بِبُلُوغِ اليَتِيِمِ أشُدَّهُ، فَقَالَ تَعَالَى:
“وَلَا تَقْرَبُوا۟ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ ۖ…﴿١٥٢﴾“الأنعام.
وَبُلُوغُِ الأَشُدِّ، يَعْنِى النُضْجَ العَقْلِىَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ:
“وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيْنَـٰهُ حُكْمًۭا وَعِلْمًۭا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ﴿٢٢﴾“يوسف.
فَيُوسُفَ ءَاتَاهُ اللهُ العِلْمَ وَالحُكْمَ لَمَّا بَلَغَ أشُدَّهُ، وَكَذَلِكَ مُوسَى. وَالغُلاَمَيْنِ اسْتَخْرَجَا كَنْزَهُمَا لَمَّا كَبُرَا:
“وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰٓ ءَاتَيْنَـٰهُ حُكْمًۭا وَعِلْمًۭا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ﴿١٤﴾“القصص.
“وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُۥ كَنزٌۭ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحًۭا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةًۭ مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِى ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًۭا﴿٨٢﴾“الكهف.
إذًا فَيَتَامَى النِّسَآءِ (نَصًّا) هُنَّ اليَتِيمَاتُ مِنَ النِّسَآءِ اللَّاتى بَلَغْنَ النِّكَاحَ، وَلَمْ يُؤْنَسَ مِنْهُنَّ رُشْدٌ بَعْدُ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِى الأَيَاتِ كَمَا رَأيْنَا، وَالأَيَةُ رَقْمُ “6”، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيِهَا لِلمُؤْمِنِيِنَ: إِذَا مَا وَجَدْتُّم أَنَّ اليَتِيمَ قَدْ بَلَغَ النِّكَاحَ فَابْتَلُوهُ، فَإِنْ ءَانَسْتُم مِنْهُ رَشَدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَالَهُ الَّذِى كَتَبَهُ اللهُ لَهُ بِأَيَاتِ الإِرْثِ، وَالَّذِى أَنْتُم أُمَنَاءٌ عَلَيْهِ، وَأَشْهِدُوا عَلَيْهِم. فَإِنْ لَمْ تَأنَسُوا مِنْهُم الرَّشَدَ فَلاَ تَدْفَعُوَا لَهُم أَمْوَالَهُم حَتَّى يَحْدُثَ ذَلِكَ.
.