شَحْرُور/ الكِتَابُ والقُرآن/ أخْطَاءٌ فِى عِلْمِ اللهِ 8

 

الجُزْءُ الثَانِى: الرَدُّ عَلَى الشُبُهَاتِ

الشُبْهَةُ الأُولَى: العِلْمُ يَقْتَضِى الجَبْر، والجَهْلُ سَبيلُ الحُرِّيَةِ وَالعَدْلِ:

.

أكْثَرَ المُعْتَرِضُونَ مِنَ الكَلاَمِ عَن العَدْلِ، وَأنَّهُ لَوْ كَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بِأَعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، لَكَانَ هَذَا الوُجُودُ هُوَ مُجَرَّدَ تَمْثِيلِيَّةٍ، وَلَمَا كَانَ لأَحَدٍ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِ، وَلَذَهَبَ الاخْتِيَارُ فِى خَبَرِ كَانَ. لَمْ يَرْضَ هَؤلاَءِ إلاَّ بِأَن يَكُونَ اللهُ جَاهِلاً (وَحَاشَاهُ) بِمَا سَيَكُونُ مِن أعْمَالِ العِبَادِ مُسْتَقْبَلاً لِيَتَحَقَّقَ العَدْلَ بِنَظَرِهِم. انْظُر لِقَوْلِ الشَحْرُور:

لنناقش أنه لو كان يدخل في علم الله منذ الأزل ماذا سيفعل زيد في حياته الواعية وما هي الخيارات التي سيختارها زيد منذ أن يصبح قادرا على الاختيار إلى أن يموت. فالسؤال لماذا تركه إذا كان يعلم ذلك؟ هنا من أجل تبرير هذا الأمر ندخل في اللف والدوران فنقول إن الله علم منذ الأزل أن أبا لهب سيكون كافرا، وأن أبا بكر الصديق سيكون مؤمنا. ثم نقول إن أبا لهب اختار لنفسه الكفر وأبو بكر اختار لنفسه الإيمان. إن هذا الطرح لا يترك للخيار الإنساني الواعي معنى، وإنما يجعله ضربا من الكوميديا الإلهية مهما حاولنا تبرير ذلك“.

.

وَوَاللهِ إِنَّهُ كَلاَمٌ لاَ يُسَاوى حَتَّى قِيمَةِ الحِبْرِ الَّذِى خُطَّ بِهِ، وَالأَهَمُّ أنَّهُ لاَ يَسْتَنِدُ إلَى ءَايَةٍ وَاحِدَةٍ مِن كِتَابِ اللهِ. وَلِعَلَّ مَا جَاءَ بِالمَحَاورِ الخَمْس السَابِقَةِ كَانَ فِيهِ أبْلَغُ الرَدِّ، مِن خِلاَلِ مَا اسْتَعْرَضْنَاهُ مِن عَشَرَاتِ الأَيَاتِ. إلاَّ أنَّنَا لَنْ نَعْتَمِدَ عَلَى مَا سَبَقَ وَكَفَى، وَإنَّمَا سَنُبَيِّنُ هُنَا حَقِيقَةُ العِلاَقَةِ بَيْنَ عِلْمِ اللهِ المُسْبَقِ، وَبَيْنَ اخْتِيَارِ العَبْدِ.

.

31/1/6 ـ العِلْمُ المُسْتَقْبَلِىّ بِأعْمَالِ العِبَادِ هُوَ عِلْمٌ بِالاخْتِيَاراَتِ:

.

فَنَحْنُ بَعْدَ مَا طَالَعْنَاهُ فِى المَحَاورِ الخَمْسَةِ السَابِقَةِ تَبَيَّنَ لَنَا بِوُضُوحٍ فَسَادَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِن أَنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَعْلَمُ أَعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، وَتَبَيَّنَ أنَّ عِلْمَ الله تَعَالَى مُحِيطٌ بِالكَوْنِ؛ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ جَارٍ، وَمَا سَيَكُونُ بِمَا فِى ذَلِكَ مَا سَيَحْدُثُ مُسْتَقْبَلاً مِن أَعْمَالُِ العِبَادِ. وَلَكِنَّنَا نُلاَحِظُ هُنَا أنَّ هُنَاكَ نِقَاطًا جَوْهَرِيَّةً أوْقَعَت الشحْرُورَ وَأَمْثَالَهُ فِى هَذِهِ الوَرْطَةِ غَيْرُ السَهْلَةِ، مِنْهَا:

أنَّ شَحْرُورَ وَأمْثَالَهُ لاَ يَقُومُونَ بِتَرْتِيلِ القُرْءَانِ، وَبِالتَالِى فَهُم كَمَن يَتْلُوا: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ”، ثُمَ يَسْكُت، وَلِذَا غَابَت عَنْهُ كَوْكَبَةٌ مِن الأَيَاتِ المُنِيِرَةِ لِهَذِهِ الظُلْمَةِ الَّتِى طَرَحَهَا وَالَّتِى يَسْبَحُ فِيهَا، وَيَدْعُوا غَيْرَهُ لَهَا.

كَذَلِكَ فَقَدْ خَلَطَ المِسْكِينُ بَيْنَ العِلْمِ وَبَيْنَ الاخْتِيَارِ، فَبَدلاً مِن أنْ يَفْهَمَ أنَّ اللهَ تَعَالَى عَالمٌ بالاخْتِيَارَاتِ الَّتِى سَيخْتَارُهَا النَّاسُ حِينَ يُوجَدُوا أحْرَارًا، سَمَّى ذَلِكَ بالَّفِ والدَوَرَانِ. وَبَدَلاً مِن أنْ يَفْهَمَ أنَّ عِلْمَ اللهِ لَن يَصلُحَ وَحْدَهُ عِنْدَ النَّاس كَمِعْيَارٍ لِلتَمْييز، والحِسَابِ، وَلِذَا لَزَمَ الوَاقِع، وَبِالتَالِى لَزِمَ أيضًا التَطَابُقَ بَينَ العِلمِ وَبَيْنَ الوَاقع، رَاحَ يُسَمِّىَ ذَلِكَ بِالكُومِيديَا الإلَهِيَّةِ. وَلم يُقْنِعَهُ لِتَحْقِيقَ العَدْلِ وتَحْقِيقَ حُرِيَّةِ الاخْتِيَار إلاَّ أن يَكُونَ اللهُ (وَحَاشَاهُ) جَاهِلاً بِمَا سَيَحْدُثُ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ. انْظُرُوا لِقَوْلِهِ:

لو كان يدخل في علم الله منذ الأزل ماذا سيفعل زيد في حياته الواعية وما هي الخيارات التي سيختارها زيد منذ أن يصبح قادرا على الاختيار إلى أن يموت. فالسؤال لماذا تركه إذا كان يعلم ذلك؟“.

فَوَاللهِ إنِّى لأَتَعَجَّبُ أن يَنْسِبَ نَفْسَهُ لِلتَحْقِيق وَالدِرَاسَةِ، ثُمَّ يَكُونَ هَذَا هُوَ مَحضُ سُؤَالِهِ!!

تَرَكَهُ يَا فَقِيه وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لأَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ لِلّنَاس حُرّيَةِ الاخْتِيَارِ فِى هَذِهِ الدُنيَا، وَلاَ تَقُومُ الحُجَّةُ عَلَيْهِم إلاَّ بِاخْتِيَارَاتِهِم، وَلاَ يُقِرُّونَ بِالعِلمِ المُجَرَّدِ. بَل إنَّ اللهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أنَّهُ سَيَبْتَلِىَ النَّاسَ لِيَعْلَمَ مَوَاقِفَهُم، حَتَّى لاَ يَظُنُّ مَن تَبَحَّرَ فِى العِلْمِ، وتَيَقَّنَ مِن أنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكَوْنِهِ، حَاضِرًا، وَمَاضِيًا، وَمُسْتَقْبَلاً، أنَّ الأَمْرَ مُنْتَهٍ، وَهُوَ مَا سَتُوَضِّحَهُ النُقْطَةُ التَالِيَة.

وَلَوْ رَاجَعْنَا مَا سَبَقَ ذِكْرَهُ مِنَ العِلْمِ لَوَجَدْنَا أنَّهُ لاَ يَتَعَارَضُ مَعَ حُرْيَّةِ الاخْتِيَار فِى شَيْءٍ. وَلْنَضْرِبَ مَثَلاً:

لِنَفْتَرضَ أَنَّ “س” أَعْلَمَ “ص” بأَنَّهُ سَيَفْعَلُ فِعْلاً مَا، ثُمَّ ذَهَبَ وَفَعَلَهُ، فَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ عِلْمَ “ص” بِمَا سَيَفْعَلُهُ “س” قَبْلَ حُدُوثِهِ جَعَلَ “س” مُضْطَّرٌ لِفِعْلِ مَا أخْبَرَ بِهِ “ص”؟!!!

أيْضًا لَوْ قُلْنَا أنَّ الأبَوَيْنِ يَعْلَمَانِ مَا سَيَفْعَلَهُ إبْنَهُمَا فُلاَن فِى مَوْقِفٍ مَا، فَهَل يَعْنِى ذَلِكَ أنَّ الإبنَ مُرْغَمٌ عَلَى العَمَلِ، أم أنَّهُمَا كَانَا يَعْلَمَان بِاخْتِيَارِهِ؟

وَلَوْ قُلْنَا (وَللهِ المَثَلُ الأعْلَى) أنَّ الإنْسَانَ نَجَحَ فِى السَفَرِ عَبْرَ الزَّمَنِ فَاسْتَطَاعَ أنْ يُشَاهِدَ وَيُدْرِكَ مَا سَيَحْدُثُ مِن أعْمَالِ النَّاسِ فَهَل يَعْنِى ذَلِكَ عَدَمَ انْفِكَاكِهِم مِن فِعْلِ اخْتِيَارَاتِهِم؟

.

32/2/6 ـ هَل يَقُومُ اللهُ تَعَالَى بِتَعْطِيلِ عِلْمِهِ لِيَرْضَى النَّاس:

.

فَنَحْنُ مِن خِلاَلِ مَا اسْتَعْرَضْنَاهُ فِى المَحَاوِرِ الخَمْسِ عَرِفْنَا أنَّ عِلْمَ اللهِ مُحِيطٌ بِكِلِّ شَيْءٍ: “..لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا“، فَهَل يَرَى المُفْتَئِتُ، عَلَى اللهِ وعِلْمِهِ، أنْ يَقُومَ اللهُ تَعَالَى، بِتَعْطِيلِ عِلْمِهِ الأزَلِىِّ، بِمَا سَيَحْدُثُ مِن عِبَادِهِ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، وَيَصِيرُ مِثْلَ خَلْقِهِ لاَ يَعْلَمُ، اللهُمَّ إلاَ العِلْمُ بِالاحْتِمَالاَتِ مِثْلِنَا، حَتَّى يَرْضَى هُوَ وأشْبَاهِهِ عَلَى اللهِ؟!

لَقَدْ أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى كِتَابَهُ نُورًا، يَهْتَدِى بِهِ المُؤمِنُونَ، وَيُكَوِّنُونَ قَاعِدَةَ مَعْلُومَاتِهِم مِنْهُ: “فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا..“. وَكَانَ الأَولَى لِشَحْرُورٍ وَأشْبَاهِهِ أنْ يَتَوَقَّفُوا عِنْدَ مَا جَاءَ بِكِتَابِ اللهِ مِن نُورٍ، بَدَلاً مِن تَوظِيفِ الأيَاتِ لِسَقِيِمِ أفْكَارهِم، وَمَرِيِضِ مُعْتَقَدَاتِهِم، وَإِلاَّ فَلْيُرِنَا رَدَّهُ عَلَى كَوْكَبَةِ الأَيَاتِ الَّتِى سُقْنَاهَا، وَالَّتِى لَم يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْهَا عِنْدَمَا زَخْرَفَ لِلنَّاسِ أنَّ اللهَ تَعَالَى جَاهِلٌ بِمَا سَيَفْعَلُهُ النَّاسُ مُسْتَقْبَلاً عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ.

ألَم يَجِدُ هَؤلاَءِ إلاَّ اللهَ تَعَالَى لِيَخُوضُوا فِيهِ؟

وَيَالَيْتَ كَانَ هُنَاكَ ذَرَّةَ عِلِمٍ تَسْتُرُ مَا هَرِفوا بِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنَّمَا غَفَلَ هَؤُلاَءِ الأَسَاتِذَةِ عَن قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ(8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (10)” الحج.

إذْ أنَّهُ قَدْ تَوَفَّرَ فِى طَرْحِهِم السَابِق:

1 ـ إنَّهُ جِدَالٌ فِى اللهِ.

2 ـ إنَّهُ جِدَالٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدَىً (وَهُوَ مَا سَنَتَأكَّدُ مِنْهُ).

3 ـ إنَّهُ جِدَالٌ بِغَيرِ أىّ دِرَاسَةٍ مِن الكِتَابِ المُنِير.

4 ـ إنَّ طَرْحَهُم فِيهِ ثَنى العِطْفِ، وَفِيهِ الإضْلاَل عَن سَبِيلِ اللهِ.

وَلِذَا فَإِنَّنِى هُنَا أنْصَحُهُمَا بِالتَوْبَةِ، وَأُحَذِّرُهُمَا (وَمَن قَدْ يَحْذُو حِذْوَهُمَا) مِن التَمَادِى.

.

33/3/6 ـ تَخَبُط القَوْمِ فِيمَا لَمْ يَحْسَبُوا لَهُ حِسَابًا:

 .

أيْضًا فَمِن خِلاَلِ مَا اسْتَعْرَضْنَاهُ فِى المَحَاوِرِ الخَمْسِ وَجَدْنَا أنَّ اللهَ تَعَالَى فِعْلاً عَلَى عِلْمٍ وَإحَاطَةٍ بِأعْمَالِ العِبَادِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ ـ طِبْقًا لِكَلاَمِ الشَحْرُورِ وَفَرِيقِهِ ـ يَجَعْلُ مِنَ هَذِهِ الحَقِيقَةِ كُومِيدِيَا، وَنَوْعٌ مِن أنْوَاعِ العَبَثِ. فَإذَا كَانَ شَحْرُورُ قَدْ قَالَ مَا قَالَهُ وَهُوَ يُسَوِّقُ لِرؤيَتِهِ وَهُوَ مُغَيَّبٌ عَن حَشْدِ الأَيَاتِ الَّتِى سُقْنَا بَعْضًا مِنْهَا، وَالَّتِى يَثْبُتُ بِهَا العِلْمُ المُسْبَقُ، فَقَدْ تَحَوَّلَت الرُؤيَةُ المَذْكُورَةُ إلَى نَوْعٍ مِن الانْتِقَاصِ للهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَخُذْ عِنْدَكَ بَعْضَ ذَلِكَ. يَقُولُ تَعَالَى:

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)” الأنعام.

فَلِمَاذَا إذًا خَلَقَهُم اللهُ وهُم كَذَلِكَ؟ بَل إنَّ الأمْرَ أبْعَدَ مِن هَذَا؛ إذ أنَّ اللهَ تَعَالَى أرَادَ أنْ يَبْتَلِيهِم وَيُحَمِّلَهُم الأمَانَةَ:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ.. (72)” الأحزاب.

بِنَفْسِ الوَقْتِ الَّذِى تَأتِى تَكْمِلَةُ الأَيَةِ لِيَقُولَ اللهُ فِيهَا عَنِ الإنْسَانِ:

..وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا“.

وَالسُؤَالُ هُنَا لِشَحْرُورِ وَأَمْثَالِهِ هُوَ: ألَم يَتَبَيَّنَ للهِ تَعَالَى أنَّ الإنْسَانَ فِى مُجْمَلِهِ ظَلُومٌ وَجَهُولٌ مِن قَبْلِ أنْ يَحْمِلَ الأَمَانَةَ؟ فَإذَا كَانَت الإجَابَةُ بِالإيجَابِ فَنَقُولُ: فَهَل تَجِدُ أى كُومِيديَا هُنَا؟

وَهَل هُنَاكَ ثَمَّةَ فَارِقٍ عِنْدَكَ بَيْنَ العِلْمِ المُسْبَقِ بِأَنَّ الإنْسَانَ ظَلُومٌ وَجَهُولٌ مِن قَبْلِ الابْتِلاَءِ، وَبَيْنَ العِلْمِ المُسْبَقِ بِعَمَلِ الإنْسَانَ فِى الدُنْيَا، مِن النَاحِيَةِ الكُومِيدِيَّةِ الَّتِى زَعَمْتَهَا لِهَذَا العِلْمِ الأَخِيرِ؟ . . ولاَ أُرِيدُ أنْ أُطِيلَ النَفَسَ فِى اسْتِعْرَاضِ عَشَرَاتِ المَوَاضِيعِ المَشَابِهَةِ لِمَا أُغْلِقَ فَهْمُهَا عَلى شَحْرُورِ وَأشْبَاهِهِ، وَلَكِن لِنُوَضِّحَ لَهُ:

.

34/4/6 ـ العِلْمُ المُسْتَقْبَلِىّ بِأعْمَالِ العِبَادِ وَالعِلْمُ الوَاقِعِىُّ:

.

بِرَغْمِ كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرَهُ مِنْ حَقَائِقٍ عَنْ عِلْمِ اللهِ وقِيَامِهِ بِالقِسْطِ؛ فَلَنْ يُفْلِحَ مَع النَّاسِ أَنْ يَقُوْمَ اللهُ تَعَالَى بِتَمْيِيزِهِم بُنَاءً عَلَى عِلْمِهِ إلَى فَرِيقَيْنِ، فَيَقُولُ لِلْفَرِيقِ الأَوَّلِ: أَنْتُم ـ بِعِلْمِي ـ أَصْحَابُ الجَنَّةِ، لَوْ أَهْبَطْتُُكُم إلَى الدُنْيَا لِتُمْتَحَنُوا وَتُبْتَلُوا فِيهَا فَسَتَعْمَلُونَ الصَالِحَاتِ ـ بِعِلْمِي ـ، وَيَقُولُ لِلْفَرِيقِ الأَخَرَ: أَنْتُم أَصْحَابُ النَّار ادْخُلُوهَا بِمَا عَلِمْتَهُ مِنْكُم، فَلَوْ أَهْبَطْتُكُم لِلابْتِلاَءِ وَالاِمْتِحَانِ فِي الدُنْيَا لَفَعَلْتُم الشُرُورَ وَالأَثَام!

وَمِن ثَمَّ فَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ لِلتَمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِ وُجُودًا حَقِيقِيًّا يُوجَدُوا فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ فِيهِ عِلْمُ اللهِ “عِنْدَ النَّاسِ“، أَوْ لِيَتَحَوَّلَ فِيهِ عِلمُ اللهِ “الكَائِن بِدُونِ وَاقِعٍ” إلَى عِلْمُ اللهِ الكَائِنُ بِالوَاقِعِ، وَيَتَطَابَقُ الوَاقِعُ مَعَ عِلْمِهِ، وَكَأنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ لِلنَّاسِ بِهَذَا الوُجُودِ: أَنْتُم لَنْ تَرْضَوْا (دَاخِلكُم) بِعِلمِيَ الأَزَلِيّ؛ فَأرَدْتُ أَنْ يَكُونَ عِلْمِي بِشَهَادَتِكُم أَنْتُم عَلَى أنْفُسِكُم. أوْ بِمَعْنًى ءَاخَرَ: أرَادَ سُبْحَانَهُ أنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِمَنْطِقِ النَّاسِ، وَحِسَابَاتِهِم البَشَرِيَّةِ، وَهُوَ كَقَولِهِ تَعَالَي: “ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”. وَعَلَى ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)” ءال عمران .

فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: “وَلِيَعْلَمَ اللّهُيَعْنِي: وَلِيَعْلَمَ اللهُ (عِنْدَكُم وَبِتَسْلِيمٍ مِنْكُم) بِالوَقَائِعِ وَالأَحْدَاثِ الحَاصِلَةِ مِنْكُم. وَكَذَلِكَ يَتنزَّلُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ..(94)” المائدة.

وَيَكُونُ المَعْنَى هُوَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْتَلِي المُؤْمِنِينَ بِشَيءٍ حَرَّمَهُ عَلَيْهِم لِيَعْلَمَ (عِنْدَهُم وَبِتَسْلِيمٍ مِنْهُم) بِالوَقَائِعِ مَنْ يَخَافَهُ بِالغَيْبِ. إذْ النَّاسُ لاَ تُصَدِّقُ إلاَّ بِمَا عَايَشَتْهُ، وَخَبِرَتْهُ، وَوَقَعَ تَحْتَ حَوَاسِّهَا (1).

إذًا فَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أنَّ “س” مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ مُؤْمِنًا، وَأَنَّ “ص” مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ كَافِرًا، دُونَ أنْ يَكُونَ لأَىٍّ مِنْهُمَا وُجُودٌ فِى الدُنْيَا بَعْد، ثُمَّ تَتَتَالَى الأَحْدَاثُ، وَيَأتِى “س”، و: “ص” إلىَ الدُنْيَا، ويُبْتَلَىَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالخَيْرِ وَالشَرِّ لِيَتَمَحَّصَا، فَيَكُونُ “س” كَمَا عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، صالِحًا، مُؤْمِنًا، وَيَكُونُ “ص” كَمَا عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَاسِدًا، كَافِرًا، ويَصْدُقُ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى الَّذِى أحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

.

35/5/6 ـ إذًا فَالعِلْمُ عِلْمَانٍ:

.

فَخُلاَصَةُ مَا طَالَعْنَاهُ فِى الصَفَحَاتِ السَابِقَةِ، وَالأَيَاتِ الَّتِى دَرَسْنَاهَا هُوَ أَنَّ عِلْمَ اللهِ مِنْهُ مَا هُوَ مُجَرَّدٌ عَنِ الوَاقِعِ، وَبِالتَالِى فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا سَيَكُونُ، وَمَا لَنْ يَكُونَ، سَوَاءٌ حَدَثَ فِيمَا بَعْد أو لَم يَحْدُث عَلَى الإطْلاَقِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَرْتَبِطٌ بِالوَاقِعِ أثْنَاءَ وَبَعْدَ حُدُوثِهِ، لِمَا أرَادَ اللهُ لَهُ أنْ يَحْدُث. وَمِنَ البَدِيهِىّ أنَّ يَتَطَابَقَ العِلْمَانُ. وَلِتَقْرِيبِ المَسْألَةِ إلَى الذِهْنِ (مَعَ الفَارِقِ) فَنُشَبِّهُ ذَلِكَ بَالعِلْمِ النَّظَرِىِّ، والعِلْمِ العَمَلِىِّ؛ فَالأَوَّلُ مَبْنِىٌّ عَلَى عِلْمٍ ثَابِتٍ، وَيُصَدِّقُهُ الثَانِى عَمَلِيًّا، وَذَلِكَ كَالتَجْرُبَةِ الَّتِى تُجْرَى كَتَصْدِيقٍ لِلثَوَابِتِ العِلْمِيَّةِ. وَلَم يَقُل أحدٌ أبْدًا بِأَنَّ التَجْرُبَةَ العِلْمِيَّةِ هِى تَمْثِيليةٌ، أو نَوْعٌ مِن الكُومِيديَا. وَهَذِهِ الحَقِيقَةِ تُفْهَمُ مِن اسْتِقْرَاءِ الأَيَاتِ مُجْتَمِعَةً.

.

36/6/6 ـ وَالعِلْمُ يَعْنِى العِلْم لاَ الإجْبَار:

.

إنَّ المُخَالِفَ يَقُولُ: هَل يُمْكِنُ أنْ يَحْدُثَ وَاقِعًا، حَدَثٌ مَا، مَهْمَا دَقَّ أوْ لَطُف، وَيَكُونُ مُخَالِفًا لِعِلْمِ اللهِ الأزَلِىّ؟ وَبِالتَالِى سَيَضْطَّرُ أيًّا مَن كَانَ مِنَ المُؤمِنِينَ أَنْ يُجِيبَ بِالنَفِىِ، وَهُنَا يَقُولُ المُخَالِفُ ظَانًّا أنَّهُ انْتَصَرَ لِمَذْهَبِهِ: إذًا فَنَحْنُ غَيْرُ أحْرَارٍ فِى أعْمَالِنَا. فَنَقُولُ لَهُ: قَدْ قَلَبْتَ المَسْألَةَ، وَلَيْسَ مِن مَصْلَحَتِكَ كَمَسْؤُول يَوْمَ القِيَامَةِ أنْ تَقُومَ بِهَذَا القَلْبِ، وَدَعَنِى أسْألُكَ أنَا:

لَوْ كَانَ هُنَاكَ عِلْمٌ بِالاِخْتِيَارِ بِطَرِيقَةٍ مَا، فَهَل يُسَمَّى عِلْمًا لَوْ لَم تَثْبُتَ نَتَائِجَهُ، وَتَتَطَابَقُ مَعَ الوَاقِعِ؟

وَلاَ يَسَعُ المُخَالِفَ إلاَّ القَوْلَ بِالتَطَابُقِ.

فَنَقُولُ لَهُ فَهَل تَغَيَّرَت صِفَةُ الاخْتِيَار؟ أم أنَّهُ لاَ يَزَالَ عِلْمًا بِالاِخْتِيَارِ؟

وَلاَ يَسَعُ المُخَالِفَ إلاَّ القَوْلَ بِبَقَاءِ الاخْتِيَار عَلَى مُسَمَّاهُ. فَنَقُولُ لَهُ بَقِىَ أنْ تُسَلِّمَ بِمَسْألَةِ العِلْمِ المُسْبَقِ، وَقَدْ أوْرَدَنا لَكَ مِنهَا العَشَرَاتِ، فَرَاجِعَهَا إن شِئتَ الاسْتِقَامَةِ.

إنَّ الَّذى يَنْوِى الزِنَا مَثَلاً، قَدْ انْعَقَدَتَ النِيَّةُ عَنْدَهُ، وصَادَفَ الشَرِيكَةَ الَّتِى انْعَقَدَتَ نِيَّتَهَا أيضًا، وَتَمَّ تَحْدِيدُ المَكَانِ والزَّمَانِ، ثُمَّ التَقَيَا، وَخَلعَا ثِيَابَهُمَا، ومَارَسَا الزِنَا بِأوْضَاعِهِ المُخْتَلِفَةَ، فَهَل يَقُولُ عَاقِلٌ بِأَنَّ ذَلِكَ حَدَثَ رَغْمًا عَنْهُمَا لأَنَّ اللهَ كَانَ يَعْلَم؟!

وَلَوْ قُلْنَا أنَّ عِصَابَةً مَا قَدْ قَامَت بالتَخْطِيطِ لِسَرِقَةِ بَنْكٍ مَا، فَقَامُوَا بِتَحْدِيدِ البَنْكِ، وَدَرَسُوهُ دِراسَةً مُسْتَفِيضَةً، وَجَهَّزُوا الأفْرَادَ، والسَيَاراتَ، وَالمُعْدَاتَ، وَاخْتاروا اليَوْمَ، والسَاعَة، وَرَسَمُوا الخِطَّةَ بِإحْكَامٍ حَتَّى أنَّهُم نَفَّذُوا خِطَتَهُم بِلاَ أخْطَاءِ، وَنَجَحُوا فِى سَرِقَة وَنَهْبِ البَنكِ، وَقَتْلِ البَعْضِ،  دَونَ الوصُولِ إلَيْهِم. فَهَل يُقَالُ إلاَّ مِن مَعْتُوهٍ أنَّ عِلْمَ اللهِ هُوَ مَن أنْتَجَ كُلَّ هَذَا، لأَنَّهُ لاَيُمْكِنُ أنْ يَحْدُثَ شَيئًا بِخِلاَفِ العِلْمِ؟

إنَّ خُلاَصَةُ هَذِهِ النُقْطَةِ أنَّ العِلْمَ بِالاِخْتِيَارَاتِ لاَ يَعْنِى مُصَادَرَاتِهَا، وَإنَّمَا كُلٌّ مَسْؤول عَمَّا يَفْعَلَهُ بِكَامِلِ اخْتِيَارِهِ، بِيَدِهِ كَانَ المَنْعُ، وَبِيَدِهِ كَانَ الفِعْلُ، وَللهِ كَانَ العِلْمُ .

 


وهو كقوله تعالي: “وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)” الكهف .

فالقوم قد سَلَّموا بالواقع، وهاهم يتذكرون كل ما مرّ على ذاكرتهم، ويُعرض أمامهم من أعمالهم التي اكتسبوها، وبالتالي فاللهُ تعالى عندهم يعلم، والذي جعله سبحانه (عندهم) يعلم، هو الوجود الذي وُجِدُوه، والأعمال التي عملوها، ولولا ذلك التحقق الوجودي، لما سلّم أهل النار (مثلاً) بمألهم، ولما سلَّموا بعلمِ اللهِ تعالى من كونِهِم يستحقون النار لفساد طويتهم.