انتقاداتٌ هَشّةٌ وُجِّهت إلي بحث الجنابة

◄ أَكْثَرُ مَا يُعَانِيِه البَاحِثُ هُوَ تَيَّارُ المُتَعَالِمِيِنَ. فَإِذَا مَا جَمَعَ مَعَ تَعَالُمِهِ تَسَلُّفًا، فَقَدْ انْتَهَى الأَمْرُ إِلَى مَهْزَلَةٍ كَلاَمِيَّةٍ، سَتَتَنَاثَرُ فِيِهَا الكَلِمَاتُ بِلاَ ضَابِطٍ، وَلاَ رَابِطٍ، وَسَيَخْرُجُ إِلَى الدُّنْيَا نَشَازًا يَعْكِسُ مَا فِى بَطْنِ صَاحِبِهِ مِنْ فَوْضَى، وَهَوىً، وَحُبٍّ لِلظُّهُورِ وَلَوْ بِقَطْعِ أَنْفِهِ.

● وَعِنْدَمَا كَتَبْتُ بَحْثَ الجَنَابَةِ كُنْتُ قَدْ استُوقِفْتُ مِنَ العَدِيِدِ مِنَ الأَيَاتِ، وَكَأَنَّهَا تُحَادِثُنِى بِمَا فِيِهَا، وَقَدْ كَتَبْتُ مَا عَنَّ لِىَ فِيِهَا دُونَ رَأىٍ شَخْصِىٍّ، اللَّهُمَ إِلاَّ تَحْلِيِلاً لِكَلِمَاتٍ بِعَيْنِهَا، اسْتِنَادًا عَلَى مَوْرِدِهَا فِى القُرْءَانِ. وَالرَّبْطُ بَيْنَهَا وُصُولاً لِمَعْنَى الجَنَابَةِ مِنَ القُرْءَانِ، وَبِمَا يَتَمَاشَى مَعَ الفَهْمِ السَّلِيِمِ، وَالعَقْلِ الحَىِّ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ مَنْ ينتسبون إلي التيار السُنّيّ ذَهَبَ إلي نقد بحث الجنابة علي موقعه، فَجَادَ عَلَيْنَا بِجَهْلِهِ، وَتَعَالُمِهِ، وانتهي إلي القول عن هذا البحث:

..لا يستحق أن يسمى بحال بحثا, فلقد استعمل صاحبه كل المفردات فيه على خلاف القرآن واللسان“.

● فَأَوَّلُ قَصِيِدَتِهِ بَدَأَهَا بِبَيَانِ حَالِهِ،فَجَمَعَ مَا بَيْنَ القُرْءَانِ وَبَيْنَ الِّسَانِ، وَهُمَا ضِدَّانٍ، يَعْرِفُهُمَا طُويَلْبُ العِلْمِ بِالحَقِّ. وَلِذَا فَسَنَجِدُ أَنَّ كُلَّ مَا خَطَّهُ بَعْدُ، هُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الجَهْلِ!

1 ـ كَذِبَتُهُ الأُوُلَى: تَوْجِيِهَهُ كَلامه إِلَى مَا لَمْ أَقُلْهُ أَصْلاً:

فأول ما بدأ المذكور كلامه قال:

أبعد الأستاذ إيهاب النجعة هذه المرة, ويبطل بحثه الذي أطال فيه نقطتان, أولهما: أن القرآن في حديثه عن الطهارة لا يقصد به إزالة الأوساخ المادية وإنما يقصد بها التنقية المعنوية من شيء ألم بالإنسان, ولو تتبعنا الآيات التي ورد فيها الطهر والتطهر في القرآن لوجدنا هذا الملحظ ظاهرا, ومن ثم فإن القول بأن الحديث عن الطهارة في آية المائدة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ . .” فالقول بأن المراد منه تنظيف البدن قول مخالف لكل آي القرآن“.

1/1/1ـ فنلاحظ أنه يسير علي منهج خَلْطٍ وهَوى في مناقشة موضوعٌ عِلميّ؛ يُدَلِّسُ بِهِ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ لَهُ، فَيَظُنَّهُ عَلَى حَقٍّ إِنْ لَمْ يَرْجِع لِمَوْضُوعِى، وَلِذَا نَرَاهُ هُنَا قَدْ وجهه إلي معنى ضيّق لم أقل به، ثم بدأ يوجه نقده من هذا المُنْطَلق. فمثلاً هُنا:

ـ أنا لم أتكلم عن موضوع “الطهارة” لكي يجعله هو محور النقد.

ـ ولم أقل أنّ الطهارة قصر علي الناحية الماديّة، ولم أقل أنها منتفية عن المعنويّة، ولا شيء من هذا القبيل، وهو يدلّ علي فقدان المذكور الموضوعية في النقد، لِتَمْشِيَةِ نَقْدِهِ كَمَا لَوْ كَانَ حَقًّا.

2 ـ كَذِبَتُهُ الثَّانِيَةُ: عَدَمُ صِدْقِهِ فِيِمَا طَرَحَهُ مِنْ أَنَّ القُرْءَانَ لاَ يَدْعُوا لإِزَالَةِ الأَوْسَاخِ المَادِّيَّةِ:

2/1/2 ـ فَلَوْ نَظَرْنَا لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَي بسُورَةِ النِّسَآءِ:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءآمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ . .”.

لوجدنا أنّ الجنابة مرتبطة بالاغتسال، وبدون اغتسال لا يصلح قرب الصلاة. ومن هنا قُلت بأن الجنابة هي طارئ يُزيله الماء.

فهل صَدَق التعالم في قولِهِ: “فالقول بأن المراد منه تنظيف البدن قول مخالف لكل آي القرآن“.

2/2/3 ـ ولو نظرنا للطهارة لوجدناها مرتبطة بموضوعها، فلو كان الحدث الطارئ ماديًّا فالتطهر منه يعني زواله، ولو كان معنويًّا فالتطهر منه يكون أيضًا بزواله، فالطهارة تكتسب وجهتها بحسب موضوع التطهر، والقول بأنّ الطهارة لا يقصد بها إزالة الأوساخ المادية وإنما يقصد بها التنقية المعنوية من شيء ألمّ بالإنسان؛ هو كلام لا يُساوي الردّ عليه، ولكنني ها أنا أفعل، ليس لصاحب الردّ ولكن لمن قد يُفْتَن بهذه السطحية.

2/3/4 ـ ويقول سُبحانه: “.. وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا” الفرقان.

فالماء طهور في نفسه، بنفس الوقت الّذي يقول فيه تعالي: “..وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ..” الأنفال.

فالماء بخلاف أنه طهور في نفسه فهو مُطهرٌ لغيره.

2/4/5 ـ إنّ قول المذكور بأن الطهارة تنحصر في الجانب المعنويّ فقط، والاستدلال علي ذلك بجملة “بلا مضمون” يزعم فيها صاحبها إنّ كلّ ءايات القرءان تقول بذلك؛ هو جَهْلٌ مِنْهُ، وَحَصْرَمَةٌ بِلاَ تَزَبُّبٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِضْلاَلُ غَيْرِهِ، مِمَّنْ يُنَادُونَهُ بِالشَيْخِ.

3 ـ كَذِبَتُهُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ بِأَنَّ تَتَبُّعَ ءَايَاتِ القُرْءَانِ يُبَيِّنُ أَنَّ الطُهْرَ والتَّطَهُرَ فِى القُرْءَانِ مَعْنَوىٌّ:

أن القرآن في حديثه عن الطهارة لا يقصد به إزالة الأوساخ المادية وإنما يقصد بها التنقية المعنوية من شيء ألم بالإنسان, ولو تتبعنا الآيات التي ورد فيها الطهر والتطهر في القرآن لوجدنا هذا الملحظ ظاهرا“.

● فَلْنَتَتَبَّعَ الأَيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الطُهْرُ وَالتَّطَهُرُ فِي القُرْءَانِ لِنَرَ هَلْ هَذَا المَلْحَظُ ظَاهِرٌ كَمَا يَزْعُمُ، أَمْ أَنَّه كَذَّابٌ، مُتَعَالِمٌ؟!

3/1/6 ـ يَقُولُ اللهُ تَعَالَي:

“إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ..” ءال عمران.

فعلي كلام الناقد فالمُفترض هو أن يُطَهّر عيسى بتنقية معنويّة من شيء ألمّ به. فهل ما يزعمه هنا صحيح أم أنّ التطهر هنا ماديّ بحت، بمعني أنّ الكفار لن يصلوا إلي عيسى “ماديًّا”، ولن يقتلوه أو يصلبوه، ولا علاقة مباشرة للناحية المعنويّة بالموضوع.

3/2/7 ـ ويقول تعالي في سورة البقرة:

“.. وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)” البقرة.

فعلي كلام الناقد فالمُفترض هو أن يُطَهّر البيت بتنقية معنويّة ألمّت به، فهل ما يزعمه هنا صحيح أم أنّ التطهر هنا فيهِ جانب ماديّ بحت، بمعني أنّ الله تعالي يأمر بتطهير البيت من أي مظاهر ماديّة من مظاهر الشرك والكُفر، كالأصنام وما يصحبها من طقوس.

لاحظ أنّ ما سبق يأتي بخلاف قوله تعالي ـ مثلاً ـ: “أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ”، والّذي يُفهم منه أن الطُهر معنويّ.

3/2/8 ـ وحتى عندما أراد المذكور أن يضرب مثلاً ليؤيّد به توجهه أخفق كما فعل في كلّ نقده فقال:

وحتى الآية التي تحدثت عن تطهر النساء من المحيض هي مثل هذه الآية, فهو تطهر من حالة يكون عليها الإنسان, ومن المعلوم أن المحيض لا يوسخ جسد المرأة ولا يجعل الناس تنفر منها, وعلى الرغم من ذلك كتب الله على النساء أن يتطهرن بعد المحيض“.

فمال التطهر هنا بالحالة المعنويّة؟!

فَالحِيضُ هُوَ حَدَثٌ مَادِّيٌّ بَحْتٌ، ومعروف أنه نزول دمّ مُعَيّن من فرج الأنثى، والطُهر يعني زوال هذا الماديّ، والتطهُر يعني زوال أثاره، . . وكله يصبّ في الماديّ.

3/3/9 ـ وكذلك في قوله تعالي:

“..وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا” الإنسان.

فالشراب طهور في نفسه، وهي طهارة ماديّة، يترتب عليها المَعْنَويّة، وعكسه من شرابٍ غير طهور يحتوي علي مواد تُذهب العقل. فعدم اتصافه بالطهر يرجع للناحية الماديّة أيضًا في الأصل.

3/4/10 ـ وعندما يقول الله تعالي: “وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ” المدثر. فالثياب مادّيّة، والتطهير هنا لَهُ شِقٌّ ماديّ بحت.

4 ـ كَذِبَتُهُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ:

ومن المعلوم أن المحيض لا يوسخ جسد المرأة ولا يجعل الناس تنفر منها!!

4/1/11 ـ فَدَلَّسَ عَلَى القَارِئ كَمَا لَوْ أَنَّنِى قُلْتُ بِمَا يَنْتَقِدُهُ، وَمِنْ ثَمَّ فَقَدْ راح يُدلل بأن الحائض ليست وسخة وأنّ حيضها لا يجعل أحدًا ينفر منها، فجاء بكلام مفروغ منه ولا علاقة له بالموضوع، وكل ما هنالك أن ءاية المحيض فيها لفظ الطُهر والتطهر، وهكذا يفعلون!

فهُوَ يُعاني من نَقصٍ في التَعَلّم يجعله يقول بما لا دَخلَ لهُ ولا فائدةً مِنهُ، كاستدلالِهِ هُنا علي معنوية الجنابة بانتفاء توسيخِ الحيض للجَسَدِ!!

4/2/12 ـ وَحَقِيقَةُ الأَمْرِ أَنَّ الأَيَةَ الَّتِي حَاوَلَ أَنْ يَعْتَزِي بِهَا تَتَكَلَّمُ أَيْضًا عَنْ أَذًى مَادِّيٍّ، وَطُهْرٍ مَادِّيٍّ ـ كما سبق إيراده ـ ولكن التلوث الماديّ حاصل في الفرج، ولذا أُمِر الرجال باعتزال النساء في المحيض وليس اجتنابهن، وهو ما يعني أنهن غير مُجتنبات معنويًّا، ولكن مُعتزلات الفروج ماديًّا، ولا يصلح الاقتراب من فرج الحائض حتى يطهر الفرج من الدم ويتطهر من توابعه.

بقي أن نقول إن قوله بأن الله أمر المرأة بالتطهر بعد المحيض هو من أوهامه كرجل تابع لمذهب، وليس في كتاب الله ـ في هذه الجزئية ـ لا أمر ولا يحزنون.

5 ـ كَذِبَتُهُ الخَامِسَةُ: قَوْلُهُ:

والجنابة أمر معروف ولم يختلف العرب في فهمه, ومن ثم فإن التشكيك فيه لا معنى له“.

5/1/13 ـ فنجد أنّه قول رجل يسدن أقوال ءآبائه، ولا يريد لأحدٍ أن يتدبر كتاب ربّه، ولسان حاله يقول: يجب أن نبقى علي ما عليه ءآبائنا.وَهُوَ كَلاَمُ مَنْ لاَ حَظَّ لَهُ فِى العِلْمِ، وَلاَ البَحْثِ، وَلاَ الحَنْفِ.

5/2/14 ـ وحتى لو رجعنا لقول ءآبائه لوجدنا أنهم ليسوا ـ كما يزعم ـ علي قلب رجل واحد؛ فمنهم من يقول بأنّ الجنابة هي البعد لأن ذلك هو أصلها عند العرب؛ كما في لسان العرب، وتاج العروس، والمجموع شرح المهذب، والمُخصص، وكبائر الذهبيّ، ومنهم من يُرجع ذلك إلي القرءان ليصل إلي أن المعنى هو البُعد كما في المبدع لابن مفلح الحنبلي، وكشاف القناع للبهوتي (2)، ومنهم من أرجع الجنابة لكون الماء باعد محله كما في تيسير العلام للبسام، وعشرة النساء للنسوي (3)، ومنهم من يستشهد بحكم القرءان بعدم القُرب من الصلاة ليصل إلي أن المعنى هو البُعد ـ كابن حجر وخليل والقرافي ـ، ولا يخفى فساد هذا التوجه الأخير؛ إذ جعل التسميّة مأخوذة من الحُكم (4)

● وَانظر: لسان العرب (1/279)، وتاج العروس (2/190)، والمجموع شرح المهذب (2/155): “الجنابة وهي في الأصل البعد“.

وفي المخصص لابن سيده (4/337): “ورجل جنب من البعد بين الجنابة والجنبة وهو الأجنبي”.

وفي الكبائر للذهبي (1/200): “يقال رجل جنب إذا كان غريبا متباعدا أهله، وقوم أجانب والجنابة: البعد“.

6 ـ كَذِبَتُهُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ:

ثم إن الإنسان عابر السبيل قد يكون جنبا! فهل سيبيع المسافر سمكا أو يعمل في منجم أو في أي شيء يؤدي به إلى هذه الحالة“.

فنجد أنّه قول رجل لا يُغادر فهم ءآبائه قيد أنملة، فهو جعل عابر السبيل هو المُسافر (تبعًا للمنقول عن ابن عباس)، فَضَيَّق المعني مع أنّه أوسع من ذلك:

6/1/15 ـ فالعابر بخلاف المُقيم، وعابر السبيل غير ابن السبيل، وعابر السبيل وابن السبيل بخلاف من كان علي سفر، وكلها ألفاظ يوردها القرءان في محلها بلا ترادف، ولكن الأستاذ لم يُكَلِّف نفسه مشقّة البحث، وإنما استسهل التسلّف، وراح يقول عن بحثي:

لا يستحق أن يسمى بحال بحثا, فلقد استعمل صاحبه كل المفردات فيه على خلاف القرآن واللسان“.

فهلا انتبه هو إلي إيراد القرءان للألفاظ بدلاً من الهرف بما لا عِلم له به.

6/2/16 ـ أنه لو كان المُسافر هو عابر السبيل فلماذا كان التكرار فيما بعد بنفس الأية في قوله تعالي: “وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ” مادام الاستثناء قد وقع قبلاً؟!!

6/3/17 ـ بل وجهل ما عند أئمته:

إذ يقول الشوكاني ـ مثلاً ـ في فتح القدير (2/148):

“وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: [وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عابري سَبِيلٍ] إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء، وهو جنب في قوله: [وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صعيداً طيباً] فكان معلوماً بذلك، أي: أن قوله: [وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ] لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: [وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ] معنى مفهوم”.

6/4/18 ـ أنه قد غُمّيت عليه فاعتبر حالتين في حالة واحدة، فالمُسافر قد يكون جُنبًا ـ علي مذهبه ـ بالمعني الفاسد المُترتب علي الإنزال، وهنا نسأله: ماذا سيكون حُكم المُسافر الّذي أنزل ماءه: جُنبًا، أم مُسافرًا؟!

6/5/19 ـ وهل يتيمم الجُنُب مع قول الله تعالي: “لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ”، “حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ”، “وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ”، أم يجتنب الصلاة؛ فلا يقربها حتى يغتسل؟!

ولن يجد إجابة إلا وتزيده تورطًا علي تورطه. 

6/6/20 ـ ولو أخذنا بفهمه وفهمهم لكان الجُنُب عابر السبيل ـ بمعني المُسافر ـ له أن يقرب الصلاة برغم جنابته، فكيف سيقول فيمن علي سفر في قول الله تعالي:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءآمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)” المائدة.

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءآمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)” النساء.

7 ـ كَذِبَتُهُ السَّابِعَةُ: جَعْلَهُ الجُنُب هُوَ القَريِبُ!!!!!!!!

ولنتخيل أنّ الأستاذ “مُدّعي القُدرةَ علي النقد” بعد كلّ ما بيّنّاه ببحثنا، ومن الأقوال المنقولة عن أئمته من أنّ الجنابة تعني البعد نجده يقول بعكس ذلك فيزعم أنّ الجنب هو الاقتراب، وها هو قوله:

ثم إن محاولة الأستاذ إيهاب جعل الجنب بمعنى البعيد محاولة عجيبة! فلأن الجنب معروف وهو يدل على الاقتراب والعلاقة, وهذا يبطل مبحثه من أوله, جعل الجنب في الآيتين القادمتين بمعنى البعيد: [وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً] النساء:36. [وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] القصص:11. وهو فهم عجيب لا ينهض له“.

قُلْتُ: فَهَذَا رَجُلٌ لاَ يَفْهَمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأسِهِ؛ وَلِذَا نَرَاهُ يَقُولُ: “وهو فهم عجيب لا ينهض له”؟!!

7/1/21 ـ وَلْنَبْدَأُ بِأَقْوَالِ أَئِمَّتَهُ:

يقول الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/11): “وقوله: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ؛ أي: رأته من بعيد“.

ويقول أبو بكر الجزائري في أيسر التفاسير له (3/157): “فبصرت به عن جنب: أي لاحظته وهي مختفيه تتبعه من مكان بعيد“.

ويقول ابن جُزَيّ الكلبي في التسهيل لعلوم التنزيل (1/1351): “فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ؛ أي رأته من بعيد، ولم تقرب منه لئلا يعلموا أنها أخته“.

ويقول الطبري في تفسيره (19/531): “يقول تعالى ذكره: فقصت أخت موسى أثره، فبصرت به عن جُنُب: يقول فبصرت بموسى عن بُعد لم تدن منه ولم تقرب، لئلا يعلم أنها منه بسبيل“.

ويقول الخازن في تفسيره (5/95): “فبصرت به عن جنب: أي عن بعد قيل كانت تمشي جانباً وتنظره اختلاسًا“.

ويقول مقاتل في تفسيره (3/12): “فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ: يعنى كأنها مجانبة له بعيداً من أن ترقبه كقوله تعالى: والجار الجنب: يعنى بعيداً منهم من قوم آخرين“.

ويقول القطان في تفسيره (3/48): “فبصرت به عن جُنب: فأبصرته عن بعد وكأنها لا تريد ان تتبع أثره“. . الخ الخ الخ!!

وسأنقل في الهامش هنا العديد من مراجع أئمته ـ المُعتبرة عنده ـ وهم يقولون إن الجُنُب هو البعيد لعل أقوال التسلف تُزيل له بعض جهله بمذهبه (5).

هؤلاء هم أئمة ناقدنا العالم بالّسان؛ ولو كان يفهم حقيقة ما يخطّ لما خطّه، ولكنه يأتي بالعجب العُجاب، ثم يُخطّيء غيره، ويرميه بما فيه، وإنما العجب كل العجب ممن لا يفقه بَيَانَ ءَايَاتِ الكتاب، ولا يعلم بما عند من ينتسب إليهم من أئمته، ولا يعلم بما في الّسان حتى أنّه يُسَوّي بين الجُنُب، وبين الجَنب، ويزعم بعد كلّ ذلك أنه هو المُتَعَجِّب، وأنّه هو المُطّلع علي الّسان!

7/2/22 ـ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُحْسِنُ الكَلاَمَ لَقَالَ: “فَلأَنَّ الجَنَابَةَ مَعْرُوفَةٌ، وَهِىَ تَدُلُ عَلَى العِلاَقَةِ”، وَلَكِنْ انْظُرُوا إِلَى رَكَاكَتِهِ؛ إِذْ يَقُولُ:

فلأن الجنب معروف وهو يدل على الاقتراب والعلاقة“. فَأَحْدَثَ كَوْمَةً مِنَ التَّعَالُمِ:

ـ فَجَعَلَ الجَنَابَةَ: الجُنُب!!

ـ وَأَقْحَمَ الاقْتِرَابَ دُونَ دَاعٍ، إِذْ العِلاَقَةُ تَقْتَضِيِهِ.

ـ أَنَّهُ عَادَ يُدَنْدِنُ عَلَى المَعْرُوفِ، وَهُوَ غَيْرُ ذِى قِيِمَةٍ فِى البَحْثِ دُونَمَا دَلِيِلٍ.

7/3/23 ـ أَنَّهُ أَفْسَدَ مَعْنَى الأَيَاتِ الأَرْبَعَةِ الَّتِى جَآءَت كَلِمَةُ “الجُنُبِ” فِيِهَا، وَمِنْهَا:

أنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: “وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ”، سَيَكُونُ عَلَى فَهْمِهِ السَّقِيِمِ هُوَ: “وَالجَارِ ذِى القُرْبَى وَالجَارِ القَرِيِبِ”!!!!

8 ـ جَهْلُهُ بِمَعْنَى ءَايَتَىِّ الجَنَابَةِ:

وَنَأتِي الأَنَ لِقَوْلِهِ:

ثم إن حديث الأستاذ إيهاب عن تكرار الحكم “الجنب/ملامسة النساء” واتخاذه متكئا للقول بأن الجنابة غير ملامسة النساء, حديث لا معنى له! فليس هناك أي تكرار! فالجزء الأول من الآية يقول أن القائم إلى الصلاة يفعل كذا وكذا وإن كان جنبا يتطهر “يغتسل, كما في آية النساء”. فهنا تفريق بين حالتي الإنسان مع وجود الماء, فحالة يتوضأ فيها وأخرى يغتسل فيها, أما عند عدم وجود الماء فسواء كان الإنسان هكذا أو هكذا فإن التيمم يكفيه ويغنيه فلا يشق على نفسه“.

8/1/24 ـ فنجد أنّه كلام من لم يدرس الأية علي الإطلاق؛ فالله تعالي يُبَيِّن في ءاية المائدة:

أ ـ المَطْلُوبُ مِنَ المُؤْمِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا مَا قَامَ إِلَي الصَّلاَةِ فِي وُجُودِ المَآءِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَي ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:

الأَوَّلُ: الاغْتِسَالُ؛ وَيَكُونُ لِلجَنَابَةِ فَقْط، وَلِلجِسْمِ كُلِّهِ.

الثَّانِي: غَسْلُ الأَيْدِي لِلمَرَافِقِ، وَالوَجْهِ، وَالأَرْجُلِ إِلَي الكَعْبَيْنِ، وَمَسْحُ الرَّأسِ، وَهُوَ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ ـ اصْطِلاَحًا ـ الوُضُوء، وَيَشْمَلُ كُلَّ حَالاَتِ المُؤْمِنِ عَدَا الجَنَابَةِ المُمَيَّزَةِ بِالاغْتِسَالِ، سَوَآءٌ لاَمَسَ النِّسَآءَ، أَوْ جَآءَ مِنَ الغَائِطِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْء مِنْ ذَلِكَ.

ثالث ذلك: حُكم المطلوب من المؤمن أن يفعله إذا ما قام إلي الصلاة في وجود الماء، ولكنه في حال سفر أو مرض؛ فيتيمم تخفيفًا من الله.

ب ـ حُكم المطلوب من المؤمن أن يفعله إذا ما قام إلي الصلاة فلم يجد ماء، سواء في حالته العاديّة، أو إن جاء من الغائط، أو لامس النساء، فيتيمم.

ولكي يفصل سُبحانه بين وضع الجُنُب وبين بقية الأوضاع فقد جعل حُكم الجُنُب هو ألا يُفكر في القرب من الصلاة بأي حال حتى يتطهر بالاغتسال، ولذا جاء بالحُكم في ءاية النساء بقوله “لا تقربوا”، “حتى تغتسلوا”، وقرن ذلك بالسكير حتى يعلم ما يقول، فرهن كلّ من الحُكمين بإزالة العِلّة:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءآمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)” النساء.

فكلاًّ من السكير والجُنُب لا يقربا الصلاة حتى تزول تمامًا الصِفة الطارئة عليهما، ويُزيل عِلّة الجنابة الاغتسال؛ كما يُزيل علّة حالة السُكر زوال السبب المؤدي إليها.

ولو كان الجُنُب هو هو من لامس النساء لما كرر الله تعالي الإيراد.

ولو كان الجُنُب هو هو من لامس النساء لما غَيَّرَ الله تعالي الوصف، ولقال في كلتا الحالتين “جُنُبًا”، أو قال في كلتا الحالتين: “لامستم النساء”. ولجاءت ءاية سورة المائدة ـ مثلاً ـ كالتالي:

“يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، وإن كنتم جنبا إلا عابري سبيل فاغتسلوا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا”.

أو: “يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو جُنُبًا فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا”.

ولجاءت ءاية سورة النساء ـ مثلاً ـ كالتالي: “ياأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ج وإن كنتم جنبا فاطهروا ج وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون”.

ولو أخذنا بهذا المنطق السطحيّ لقلنا أن التيمم لا يشمل المؤمن العاديّ، ولتوجب عليه عدم الصلاة ما لم يجد ماءً، فهو غير مذكور إلا في حكم الوضوء فقط، أما التيمم فليس له ذِكر!

8/2/25 ـ والأن نسوق له أولاً أقوال أئمته وهم يقولون بالتفريق بين الحالتين، وإن كان كلامًا يعجّ بالأخطأ هُوَ أيضًا، وإنَّمَا نُلزمه بالتَفريق الوارد.

● يقول ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري (1/491):

وأجمعوا أن الجنب يجوز له التيمم، إلا ما روى عن عمر، وابن مسعود أنهما لا يجيزان التيمم للجنب، لقوله تعالى: (وإن كنتم جنبًا فاطهروا)، وقوله: (ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا)، وقد روى مثل هذا عن ابن عمر، واختلف فيه عن علىّ. وخفيت عليهم السنة في ذلك من رواية عمار، وعمران، وإنما استراب عمر عمارًا في ذلك، لأنه كان حاضرًا معه، فلم يذكر القصة وأنسيها، فارتاب، ولم يقنع بقوله، وكان عمر وابن مسعود لما كان من رأيهما أن الملامسة في الآية هي ما دون الجماع، وكان التيمم في الآية يعقب الملامسة منعا الجنب التيمم، ورأيا أن التيمم إنما جعل بدلاً من الوضوء، ولم يجعل بدلاً من الغسل، فكان من رأى ابن عباس، وأبى موسى: أن الملامسة في الآية الجماع، فأجازا للجنب التيمم، ألا ترى أن أبا موسى حاجَّ ابن مسعود بالآية التي في سورة النساء، فإن الملامسة فيها الجماع، فلم يدفعه ابن مسعود عن ذلك، ولا قدر أن يخالفه في تأويله للآية فلجأ إلى قوله أنه لو رخص لهم في هذا كان أحدهم إذا برد عليه الماء تيمم، وقد ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبى سنان، عن الضحاك قال: رجع عبد الله عن قوله في تيمم الجنب ولم يتعلق أحد من فقهاء الأمصار، من قال: إن الملامسة الجماع، ومن قال: إنها دون الجماع، بقول عمر وابن مسعود، وصاروا إلى حديث عمار وعمران بن حصين في ذلك، إلا إنهم اختلفوا، ثم أجازوا للجنب التيمم، فمن قال: الملامسة الجماع أوجب التيمم بالقرآن، وهو قول الكوفيين، ومن قال: الملامسة ما دون الجماع أوجب التيمم للجنب بحديث عمار وعمران، وهو قول مالك“.

● وفي الوسيط لسيد طنطاوي (1/952):

وعن ابن مسعود أن المراد بالملامسة ما دون الجماع. أى ماسستم بشرتهن ببشرتكم. وبه استدل الشافعى على أن اللمس بنقض الوضوء..“.

8/3/26 ـ أما الاعتزاء بأقوال العرب في الموضوع فهو من أخيب ما ورد في النقد؛ والعجيب أنه يتكلم عن البحث من زاوية العلم. فالّذي يتكلم عن العِلم يجب أن يكون نقده عِلميًّا، لا أن يتكلم عما يظنّ أنَّهُ شاع عند العرب، وكأنه كان موجودًا بِشَخْصِهِ منذ اليوم الأول من نزول الحُكم بكتاب الله فوجد المعني شائعًا عند العرب!

9 ـ جَهْلُهُ بِمَعْنَى الصَّعِيِدِ:

يقول المذكور بَعدها:

فإذا تركنا هذه النقطة وانتقلنا إلى النقطة الأخرى وهي مسألة الصعيد الطيب, وجدنا أنه قد اعتمد على بعض الأفعال الواردة في القرآن ولم يكلف نفسه البحث عن الكلمة, هل وردت في القرآن في مواضع أخرى وكيف استعملت! وهذا يسقط البحث كبحث. فإذا نظرنا في القرآن وجدنا أنه قد جاءت فيه كلمة “صعيد” أربعة مرات, مرتان متعلقتان بالتيمم, والأخريتان في سورة الكهف وهما قوله تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً [الكهف : 8]. فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً [الكهف : 40] فهل سيجعل الله ما على الأرض مادة متصاعدة متطايرة, وكيف يكون هذا وهو سيكون جرزا خاوية بلا شجر ولا نبات؟ وهل كان صاحب صاحب الجنة يقول له أن جنته ستتطاير في السماء على الرغم من أنها ستكون زلقا؟“.

9/1/27 ـ فأول ما يلفت الانتباه هُو تركيزه علي الصَعيد مَعَ إهمالِهِ للطيّبِ. وَلَوّ فَقِهَ لَعَلِمَ أنَّ الَّذي يُحَدِّدُ الصَعيد هُوَ السياق. ولِذَا فالقَول بأنَّ التُرابَ هُوَ الصَعيدُ الطَيبُ هُوَ إهمالٌ للوَصْفِ بالطَيِّبِ، وتضييقٌ علي الصَعيدِ بالهَوى والتَسَلُّف.

9/2/28 ـ وثاني ما يلفت الانتباه هُو قوله: “وكيف يكون هذا وهو سيكون جرزا خاوية بلا شجر ولا نبات؟”. فِمِن أينَ لَهُ بالخواء، وانعدام الشَجرِ والنباتِ؟!

إنَّهُ تَوليدُ النَصِّ ما لَيسَ فيهِ لِخدْمَةِ الهَوى.

ثُمَّ إنَّ الرجل يَتَكَلَّمَ عَن الجُرُز كما لو كان يعلمها، أو أن مَن يقرأ لَهُ يَعْلَمُها! فما هِيَ الجُرُز التي ستكونُ خاوية بلا شجر ولا نبات؟ هُوَ لا يُجيب، ولَن يُجيب، ولن نقول لَه شيئًا فيها لنترك لَهُ فرصة التعالم.

9/3/29 ـ وثالث مواطن الافتراء والجهل هُنا هُوَ قوله:

ولم يكلف نفسه البحث عن الكلمة, هل وردت في القرآن في مواضع أخرى وكيف استعملت! وهذا يسقط البحث كبحث“.

فأما الافتراء ففي جزمه بأنني لَم أُكَلِّف نَفسي بالبحث، فِمن أينَ لَهُ ذَلِك؟!

وأما الجهل فلأن ما افترَضَهُ غير مُطْرَد، فالكَلِمة قَد تأتي في أماكنٍ عِدّةٍ، وكُلّ مَرّةٍ تأتي بمعنيً مُغاير. وَلو نَظرنا لكلمة: “حُسْبَاناً” في الأية (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًۭا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًۭا زَلَقًا) الَّتي أورَدَها لوجدناها تأتي مَرَّةً أُخرى في قولِهِ تعالي: “فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ”. فَهل مِن مُناسبةٍ بَين المَوقِعَينِ؟!

كَذَلِكَ لو أخذنا بعبقريتِهِ في البَحثِ وسَلَّمنا بأنَّ الصعيد هُوَ التراب، لصار ما علي الأرضِ ترابًا جُرُزًا، ولصارت جَنّةُ الرَجِلِ تُرابًا زلقًا.

هَذَا هُوَ مَبلغ الرجل مِن العِلم، فلا يُنْتَظرُ مِنْهُ أكثرُ مِمَّا قال.

10 ـ افْتِرَآءُ الكَذِبِ:

يقول المذكور:

إن عملية التيمم هي عملية رمزية للتطهر, ومن ثم فإن حديث الأستاذ إيهاب عن وضع التراب على الوجه وكيف أنه أمر يستقذره الإنسان وقد يؤدي إلى إصابته بالأمراض العديدة حديث غريب! فلست أدري من قال أن التيمم يعني أن يمرغ الإنسان وجهه في التراب أو يهيل عليه التراب“!

10/1/30 ـ وَمَن يُراجع ما كتبته فَلَن يَجِد فِيِهِ أنَّي قُلْتُ بتمريغ الوَجه في التُراب، أو إهالة التراب علي الوَجه، ولَكِنَّهُ كعادِتِهِ، يَكذِبُ كما يَتَنَفَّس.

10/2/31 ـ أما الإصابة بالأمراضِ فيكفي فيِهِ أقَلّ القَليلِ مِن التُرابِ، إذ الفيروسات والميكروبات لا تُرى حتى بالعَينِ المُجَرَّدَةِ، ولَكنَّ الرَجُل يجهل حتى هَذِهِ البديهيات بِحكمِ العَصرِ، ثُمَّ يرمينا نحن بالجَهلِ بما يعرفه طالب العِلم المُبتدئ، فيقول:

فكما يعلم أي طالب مبتدئ في العلم الشرعي أن المتيمم بعد أن يخبط يده في الأرض ينفضهما ببعضهما ثم يمسح وجهه بهما!! وحتى لو لم ينفضهما فماذا سيكون قد علق بيده من التراب؟! إذا فالحديث عن الأمراض الناشئة من التيمم هو مثل الحديث عن خطوة المشيء في الشوارع لما فيه من الأتربة المتطايرة!”.

10/2/31 ـ إنَّ التَعَصّب جَعَلَهُ يسَوّي بَينَ مَن يضع التُرابَ مُباشرةً علي وَجههِ وبينَ مَن يمشي في الشارع!!!

وأخيرًا يختم المذكور بقولِهِ:

ثم كيف يتيمم الإنسان زجاجة العطر؟! هل نسى الأستاذ إيهاب معنى التيمم أصلا؟! لو كان الحديث عن العطر لما كان هناك حاجة لذكر كلمة التيمم ولكان الحديث مباشرة عن استخدامه!! ثم من هو ذلك المسافر الذي لا يجد الماء ويحمل زجاجات العطر, ثم هل كل الناس تحمل زجاجات العطر في جيوبها؟!! إن الجنابة والتيمم والصعيد في لسان العرب والقرآن معلوم, ومن ثم فإن هذا الكلام المذكور في الملف الذي وضعت رابطه أخ أبو كريم لا يستحق أن يسمى بحال بحثا, فلقد استعمل صاحبه كل المفردات فيه على خلاف القرآن واللسان!!“.

فأما عَن نسياني للتيمم فَلَم أنسه أصلاً، بل ليسَ فيما كَتَبته ما يدل علي نسياني لَهُ. فالتيمم يماثل القَصد، وهوَ كَقَولِهِ تعالي:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ..”.

وقوله: “لو كان الحديث عن العطر لما كان هناك حاجة لذكر كلمة التيمم ولكان الحديث مباشرة عن استخدامه” هُوَ استمرارٌ مِنْهُ للعَبَث الفِكري.

أما عَن حَمل المُسافِر للعِطر أثناء سَفَرِهِ فَهوَ سَهل لَو عَلِمَ بأهميتَهُ، ولا يُسَببُ حَرجًا في وَزنِهِ أو ثَمَنِهِ.

أما احتكامهُ لكلام العَرَبِ فَلَيْسَ غَريبًا عَلَيّهِ، فالرَجُل لا يُريد أن يُغادر ما شَبَّ عَلَيّهِ، وأنا لَستُ حَريصًا علي هُداه هُوَ أو غَيره، فالله وَحْدَهُ هُوَ مَن يهدي، وإنَّما أكتُبُ خواطري، ودراساتي، وعلي مَن يُريد أن يُناقشني فليَتَفَضّل، ولَكِن بعلمٍ، وبأياتِ الكِتابِ، لا بالتَسَلّفِ، والهَوى.

وقولُهُ: “فلقد استعمل صاحبه كل المفردات فيه على خلاف القرآن” هُوَ كَذِبٌ مِنهُ كعادِتِهِ في كتاباتِهِ كُلِّها الَّتي وَصَلَتني مِنهُ.

وأقول أخيرًا: إن ردّه علي البحث لا يُمكن أن يُسَمَّى بالردّ، وإنّمَا هُوَ مِن باب المُشاغبة، والتَطَلّع إلي المَشيخة الَّتي يحبونها جِدًّا، وهُوَ ما سيدركهُ بسهولَةٍ لامتلاكِهِ لمُقَوِّماتِهِ، فَلْيَنْعَم بِذَلِك. وَهُوَ بِكُلِّ مُسَاهَمَةٍ مِنْهُ يَكْشِفُ وَجْهًا يُثْبِتُ بِهِ مَا قُلْنَاهُ عَنْهُ مِنَ الوَهْلَةِ الأًولَى، فَالكِتَابُ يُقْرَأُ مِنْ عُنْوَانِهِ.

هوامش: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1  ـ انظر: المبدع شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي (1/137)، وفيه: “الجنابة أصلها البعد لقوله تعالى (والجار الجنب) أي البعيد“.

وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي الحنبلي (1/398)، وفيه: “الجنابة أصلها البعد لقوله تعالى (والجار الجنب) أي: البعيد“.

2 ـ انظر: تيسير العلام شرح عمدة الحكام للبسام (1/41)، وفيه: “وإنما قيل لمن جامع أو خرج منه المنىُ: جنب لأن ماءه باعد محله“.

وعشرة النساء للنسوي (1/94)، وفيه “الجنابة أصلها البعد، لقوله تعالى: (وَالْجَارِ الْجُنُبِ) أي البعيد، ومع الانتقال قد باعد الماء محلّه، فصدق عليه اسم الجنب“.

3 ـ انظر مقدمة فتح الباري (1/97): “وقوله أجنبت من الجنابة وأصلها البعد واستعمل في إنزال المنيّ ونحوه لأن صاحبه يبعد عن المسجد وعن الصلاة قوله فبصرت به عن جنب أي عن بعد“.

وفي شرح خليل للخرشي (2/352): “وأصل الجنابة البعد وسمي جنبا لأنه يجتنب موضع الصلاة أو بمجانبته الناس وبعده عنهم حتى يغتسل“.

وفي الذخيرة للقرافي المالكي (1/290): “والجنابة مشتقة من التجنب وهو البعد ومنه الرجل الأجنبي منك أي البعيد عن قرابتك وصحبتك ومنه المجانبه للقبائح ولما كان المتصف بهذه الأسباب بعيدا من العبادات سمي جنبا“.

 4  ـ هناك العشرات والعشرات من المراجع المعتبرة عند أهل المذهب أذكر منها هنا فقط:

الوجيز للواحدي (1/670): “فبصرت به عن جنب: أبصرته من بعيدٍ. وهم لا يشعرون: أنَّها أخته”.

بحر العلوم للسمرقندي (3/93، 3/308): “فبصرت به عن جنب، أي: عن بعد. والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد”.

“فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ: يعني: بصرته عن بعد كما قال [واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إحسانا وَبِذِى القربى واليتامى والمساكين والجار ذِى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً] يعني: البعيد منهم من قوم آخرين”.

تفسير ابن أبى زمنين (2/7): “فبصرت به عن جنب أي من بعيد وهم لا يشعرون أنها أخته”.

تفسير البغوي (6/194): “فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ: أي: عن بعد”.

تفسير البيضاوي (4/449): “فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ: عن بعد وقرىء: عن جانب، وعن جنب، وهو بمعناه”.

تفسير الجلالين (7/274): “فَبَصُرَتْ بِهِ” أَبْصَرَتْهُ “عَنْ جُنُب” مِنْ مَكَان بَعِيد اخْتِلَاسًا”.

تفسير السمعاني (4/125): “فبصرت به عن جنب: أي: عن بعد”.

تفسير القرطبي (13/256): “فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ: أي بعد؛ قال مجاهد ومنه الأجنبي”.

تفسير مجاهد (2/481): “فبصرت به عن جنب قال عن بعيد”.

تيسير التفسير للقطان (3/48): “فبصرت به عن جُنب: فأبصرته عن بعد وكأنها لا تريد ان تتبع أثره”.

زاد المسير (5/42): “فبَصُرَتْ به عن جُنُبٍ؛ أي: عن بُعْدٍ منها عنه وإِعراضٍ، لئلاَّ يَفْطنوا”.

فتح القدير للشوكاني (5/389): “فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ: أي أبصرته عن بعد، وأصله عن مكان جنب، ومنه الأجنبي”.

محاسن التأويل للقاسمي: “فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ، بضم النون وسكونها: أي: عن بعد”.

مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل (6/59): “فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد”.

نظم الدرر للبقاعي (6/164): “فبصرت به عن جنب أي بعد من غير مواجهة”.

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير لأبي بكر الجزائري (4/54):

“فبصرت به عن جنب: أي لاحظته وهي مختفية تتبعه من مكان بعيد”.

التفسير الميسر لمجموعة من علماء وأساتذة التفسير (7/48): “وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ: وقالت أم موسى لأخته حين ألقته في اليم: اتَّبِعي أثر موسى كيف يُصْنَع به؟ فتتبعت أثره فأبصرته عن بُعْد، وقوم فرعون لا يعرفون أنها أخته، وأنها تتبع خبره”.

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x