ملحوظة: كُتِبَت هذه المقالات مُنذ سنوات، وستتمّ مراجعتها حين التفرغ.
مناقشة مقدمة منهج إبراهيم بن بنىّ:
بعيدًا عن الإنشاء والإسهاب فالقرءان يُعَلِّم الناظر فيه (بحقّ) أن يتعامل معه بناحية رياضية علمية عملية صحيّة، فالتقابل والتوازن المعنوي والكميّ الموضوعي الذي تزخر به الآيات والحقائق التي تتوسدها وتحتويها ـ كلهم ـ لا يدعون للمتدبر الحق فرصة تفريغ الآيات من محتواها (بالانفلات اللامنهجي)، أو تسطيح مفهومها (بالدروشة التراثية)!
والله سبحانه خلق الكون بكلماته، وبها قدّر الأقدار، ولا تزال الكلمات مستمرة لا يسعها فكر مخلوق فضلاً عن بشر، ومن ثم فإنه سبحانه يُعرِّفُنَا ـ بعلمنا المحدود ـ أن المسألة أكبر بكثير مما نتحمله، ولكنه ضرب لنا أمثلة بسيطة تتناسب مع قدرتنا المعرفية، وجعل هذه الأمثلة منظورة في كونه ومقروءة في كتابه.
لقد نزل القرءان كرسالة خاتمة بحيث يواكب كل العقول والأفهام وتحاول العقول والأفهام مواكبته ومواكبة ما فيه من حقّ، ومنه (هذا الحق) الحقائق العلمية التي يشير القرءان إليها، بل ويدعوا إلى تناولها منذ مئات السنين، ويدعوا الناس إلى دراسة الكتاب ليعلموا ما يتناسب معهم ومع سقفهم المعرفي مما فيه من هذا الحق ليطمئنوا إلى موضوعه الأصلي.
القرءان كتاب الله المنزل سيظل قرءانًا لكل العصور، ولو فُهِمَ كله في عصر ما لما صار قرءانًا لمن سيلي في العصور التالية. وسيظل عطاؤه مستمرًا غير منقطع، وسيكشف عن حقائقه العلماء من كل حدب بما علمهم الله تعالى من خلقه في كل آنٍ وزمان.
وهذه الحقيقة الخاصّة بديمومة عطاء القرءان عرفها بعض الأقدمون؛ فيقول الزركشي في البرهان (1/ 5) عن القرءان: “لا يستقصى معانيه فهم الخلق، ولا يحيط بوصفه على الاطلاق ذو اللسان الطلق”، ويقول عبد الله التستري: “لو أعطي العبد بكلِّ حرفٍ من حروف القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه”. والعجيب أنهم بعد تسليمهم بهذا وبجهلهم المطبق بالقرءان (كنسبة وتناسب) وما فيه من العلوم فإنهم يحجرون على المتأخرين (أمثالنا) القول فيه بما لم يدركه الأولون!!!
إذن فالمطلوب من المؤمنين بهذا الكتاب المنزل هو أن يتدارسوا مواضيعه، وبذلك يكون من ثمرات هذه الدراسة أن يكونوا هم السبّاقون في معرفة حقائق الكتاب الميسرة لعصرهم قبل أن يهديهم إليها غيرهم ممن سيجعلون شغلهم الشاغل هو دراسة الكتاب المنظور.
إلا أن كون الكتاب يحتوي على هذا الحق العلمي، لا يجعله كتاب علوم، ولا يجعله كتابًا ذو صبغة واحدة أو وحيدة، وإنما جُعِلَت هذه الحقائق كنوع من الدعم البرهاني والإثباتي لبقية مواضيع الكتاب المنزل، والتي تهدف في مجموعها إلى بناء شخصية المؤمن التقي الذي يستطيع تحقيق نفخ الروح فيه، وتولي المسؤولية الخلافية في الأرض كما كان الأسوة المحمودة إبراهيم النبي عليه السلام.
وهناك في منتدي مِعراج القَلَم عندما طالعت بعض مواضيع الأستاذ “إبراهيم بن نبيّ” التي كتبها كتحليل منه لبعض ءايات القرءان فقد تعجبت من طرحه لبعض هذه المواضيع، حتى أنني لم أجد ـ من وجهة نظري ـ جملة صحيحة في موضوع واحد كموضوع نبي الله يوسف (بخلاف ما نقله من كتابات العلماء عن الرؤيا وما يحدث في الأحلام). وأيضًا ما قاله عن أن النار التي أُشعلت لحرق نبي الله إبراهيم لم تكن نارًا على الحقيقة، وإنما هى مجرد شائعات كان الهدف منها هو حرق سمعة نبي الله إبراهيم . . الخ.
ما لفت انتباهي عند مناقشة موضوعى: “نبي الله يعقوب لا علاقة له بكوكب المريخ” هو أن كل من تداخل من الزملاء لم يناقشوا شيئًا من الانتقادات المكتوبة برغم فداحة الأخطاء التي أظْهَرْتُها في مناقشتي لأقوال إبراهيم، وإنما كان جلّ تداخلهم منصب على جزئية واحدة وهى قولهم: إن الأستاذ إبراهيم يتكلم من منطلق منهج قدمه في بحوث المنهج الخاصّة به، فلماذا لا تناقش أولاً المنهج المطروح؟!
وهو نفس أسلوب كلّ أهل الغىّ والضلال فى كل زمان ومكان!
يقول العضو عمرو يوسف:
“أري ان نتناقش أولا في موافقتك أو عدم موافقتك علي قواعد المنهج فهي اساس الاختلاف وليس نتائج القراءة”.
“فمثلا استاذ ايهاب حسن عبده عندما ناقش كتابات الأخ العزيز بن نبي . . . لم يناقش المنهج وبالتالي أصبحت القراءت كلها أوهام”.
محمد بن عبد الله:
“اشكرك على مداخلاتك وانا اتابع كتاباتك بشكل دائم في الرد والنقاش والحوار مع الاستاذ والاخ ابراهيم بن نبي ولايسعني الا ان اطالبك وبكل اخوة بما طالبك الاخ عمرو يوسف بعبارته التالية: اقتباس: أري ان نتناقش أولا في موافقتك أو عدم موافقتك علي قواعد المنهج”.
حتى إبراهيم نفسه صدّر لي منهجه دون طائل في الجزئية التي كنا نناقشها:
“بين يديك بحوث المنهج وفيها تفريق بين المفهوم و المعاني”.
● وءاخر يقول لي (متأثرًا بالمنهج إلى النخاع):
قل لنا أولاً ما هو مفهوم الشهر عندك (كما لو أنه للشهر مفاهيم عدة كما أفهمه إبراهيم)، ومفهوم التوراة (كما لو أنه للتوراة مفاهيم عدة كما أفهمه إبراهيم أيضًا)، . . . الخ؟!
حتى سليمان وإبراهيم ويعقوب عليهم السلام أصبحوا على المحكّ، وأحاط الجهل بمعنى أساميهم، انظروا لقول العضو (الضحيّة) خالد هلال:
“ما هو معنى (مفهوم) هذه الألفاظ التي بُنيَ عليها موضوعك
(شهر, توراة, سليمان, إبراهيم, جن, يديه, سعير, يوسف, يعقوب, حديث, يفترى”.
وصرنا كلما أردنا أن نتكلم يلاحقنا أتباع المنهج بطلب وطلبات أن نتكلم الكلمة ومعها كتالوج يشرحها (هكذا أثرّ فيهم المنهج الممنهج)!!!!
حتى أنه من هذا البعض من اعتبر أن ما انتقدته من كلام إبراهيم هو غير ذي قيمة وذلك لعدم إجابتي على أسئلته (السمجة) في حينها:
وحتى ءاخر لحظة ما زالت الدعوة هى هى، ولو أنصفوا لعرفوا أنه ما هكذا تورد الإبل، إذ المنهج الصّواب لا يُخْرِج ولا يُفرِز إلا كل ما هو صواب، وأقرب علامات صوابه هو أن يستند لنصوص الكتاب، ويتفق مع العقل بضوابط العلم. ولكننا وجدنا أشياء تصطدم بالعقل، وتخالف تمامًا (وأشدد على تمامًا) نصوص الكتاب؛ فزاد الطين بلة عن مذهب السلفية المعوج، والعجيب أن صاحب المنهج يرمي معارضيه بالسلفية التي يؤسس هو للون منها الأن لتكون مستقبلاً سلفية لتفسير القرءان من منطلق كوني، ولا عبادات ولا شعائر، ولا صلواة ولا صيام ولا حج، ويعقوب هُوَ كَوكَب المريخ ويوسف هُوَ كَوكَب الأرض، والملائكة هُم الكواركات، والشيطان هُوَ الوهم . . الخ.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل تعداه إلى كون الرسول الذي أُنْزِلَ عليه الكتاب صار عند إبراهيم (كما خطّ بيمينه) هو مجرد بوسطجي، ولا علم عنده بدقائق الكتاب العلمية، كالفيزياء والبيولوجياء، والكيمياء . . الخ، حتى أنه استكثر عليه أن يكون من الراسخين في العلم، بل ووصفه بالجاهل بالكتاب المنزل عليه!!!
يقول إبراهيم بن نبي:
“نعم الرسول ساعي بريد”.
“. . وإن تأويله لا يستقر إلاّ عند الراسخون في العلم، فهل للنبي الكريم معرفة بالمتناهي الصغر في عالم الحي والميت فأين هو؟”!!
“الرسول حامل الرسالة (القرآن) لا يعرف كنه هذا الأمر وليس عليه إلاّ إبلاغه ونرى أنّه من الناحية النفسية إستحالة أن يخط رجل هذه العبارة إن كان هو من ألّف القرآن ويحكم على نفسه بالجهل ونرى حالة النبي الكريم النفسية وهو يقرأ هذه الآية وحجم الثقل الذي عليه من تبليغ أمر لا يعرف كنهه”!!!
● غفل إبراهيم وهو يذهب هذا المذهب عن أشياء وأشياء، وغفل معه مصدقوه، ولم ينتبه (وينتبهوا) إلى أن كل الأنبياء سلام الله عليهم كانوا بكل ما أنزل عليهم (مما سيعلمه غيرهم) به عالمين، وزيادة!!!
انظر إلى قول الله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ نُرِىٓ إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ ﴿٧٥﴾”.
تجد أن نبي الله إبراهيم وصل إلى ما لم ولن يصل إليه أحد من البشر العاديين، الذين أُنِيطَ بهم النظر في الملكوت وليس رؤيته كله:
“أَوَلَمْ يَنظُرُوا۟ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ”.
وانظر إلى قول الله تعالى عن نبيه محمد: “لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَـٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰٓ”.
تجد أن النبي قد رأى أشياء لم يصلح تفصيلها لكونها فوق الاستيعاب!!!
فغفل إبراهيم بن بني عن كل ذلك وراح يقول ما قاله وهو في ذلك على جهل عظيم؛ فأساء إلى الرسول النبي ووصفه بأنه ساعي بريد، جاهل بما أُنْزِلَ عليه من الكتاب، ولا يبلغ مستوى علماء الفيزياء والبيولوجياء ولا يُصَنَّفُ من الراسخين في العلم (بغض النظر عن نيته وقصده).
● والعجيب أن كل ذلك لاقى استحسانًا من بعض المريدين الذين غفلوا هم أيضًا عن الأيات التي ذكرتها، ولم يعترض منهم أحد، وصار الرسول عندهم كلهم بالموافقة السكوتية إلى ما سبق ذكره!!!
وتفذلك بعضهم ليقول بأنه ينبغي أن نتناول ما يُطرح من زاوية الطارح، مع أنه يعلم أن ذلك لن يغير من الأمر شيئًا، وسيظل الكلام هو هو، وسيظل النبي محمد محصورًا (طبقًا للطرح الإبراهيمي) في جهله بعالمي الحيي والميت، ولا يستحق الإدراج في تعداد الراسخين في العلم!!
ولأنني عندما اعترضت على بعض هذه الكتابات (كما سلف ذكره) وجدت أن هناك شبه إجماع من المتداخلين فضلاً عن صاحب المنهج نفسه على إشهار المنهج في وجهي؛ لذا فقد قررت الالتفات إلى ذلك المنهج الذي يزجون به كلما اعترض معترض، فوجدت ما توقعته، وكل المطلوب من كل من يتقي الله ويزعم أنه يروم الحق، ويبحث عن رضى ربه أن يتريث حتى الانتهاء من المناقشة الكاملة للمنهج ثم في النهاية فلينتقد كل من يشاء ما شاء.
● وسنبدأ هنا في مناقشة أجزاء منهج الأستاذ إبراهيم بالترتيب، بهدف تشريح هذا المنهج وتحليله إلى أصغر جزئياته، واضعين في اعتبارنا أننا مراقبون؛ وعليه فإن كل ما ينبغي الإشادة به سيجد ما يستحقه من الإشادة، وكل ما يستحق النقد فسيُنقد، والله المستعان.
من الافتراضات التي نقدم بها هنا:
1 ـ أن ألفاظ أي كتاب (بما في ذلك القرءان) كان جُلّها مفهومًا لكل نبي وقومه:
“وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”.
“وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ”،
“فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ”.
وبعيدًا عن الآيات فهذه النقطة هى بديهية عقلية، إذ كيف سيرسل الله تعالى لقوم كتابًا لا يفهمونه، ثم هو يقول لهم إنه واضح وبَيّن وأنهم سوف يُسْألون عنه؟!!!
2 ـ أن هذا الفهم يختلف عن بعض اللغة المتوارثة التي تقوم حاليًا على الخلط بين المعاني. فـ: “القسم” (مثلاً) في القرءان يعني اليمين الصادق بينما “الحلف” يعني اليمين المكذوب، وفي اللغة المتوارثة يسوون بينهما، . . وهكذا.
3 ـ أن هناك بعض الأيات ستكون مفهومة المعنى ولكنها مجهولة الكيفية، حيث جعلها الله تعالى وجعل تأويلها فتنة للناس، وهو تصديق قوله: “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”.
4 ـ أن الاهتداء إلى المعاني الغائبة مما كان معروفًا عند النبي وقومه من لسانهم يتأتى في كل زمان بعد زمن النبي بالتدارس والتدبر للكتاب نفسه، وعليه فيكون الكتاب هدى للناس في كل زمان ومكان كما قال منزله بالحق.
5 ـ وأفترض أن الترادف غير واقع في كلمات القرءان.
6 ـ وأن موضوعات القرءان الأساسية متعددة، ومن الموضوعات الفرعية به اشتماله على بعض الحقائق العلمية التي لم تكن ميسرة للعلم بها عند نزوله كشاهد لكل عصر على أن الكتاب هو الحق من الله تعالى: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ”.
7 ـ أن المشترك اللفظي واقع لا محالة، بدءًا بالحرف المشترك في الكلام، وانتهاءًا بالكلمة المشتركة المعاني ويحددها السياق، وهو واقع أيضًا في الموجودات نفسها، فالهواء (مثلاً) متعدد الاستعمال والفوائد؛ فتستنشقه الكائنات، ويرفع الطير في السماء، ويحرك السحب، ويحرك السفن في الماء . . . الخ، وهو هو الهواء، ومع ذلك يقول القرءان عن أفئدة الظالمين: “وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ”!!
فاشترك اللفظ “هواء” في كونه الهواء الذي نعرفه ونعرف مكوناته على أرضنا، وفي كونه أيضًا تعبير عن خواء وتهافت قلوب الظالمين!!
ولنبدأ في مناقشة منهج الأستاذ إبراهيم وسأحاول قدر الإمكان عدم ذكر اسمه للتخلص من عقدة الشخصنة التي باتت تُخَيِّمُ على ظنّ بعض الزملاء، ولو كان هناك إمكانية لعدم ذكر الإسم على الإطلاق لفعلت، فكل ما يهمني هو الفكر المطروح فحسب:
مناقشة التمهيد الذي مهد به صاحب المنهج:
يقول صاحب المنهج في أول تقديمه:
“هدفي من نشر هذا البحث أو غيره هو جعله أداة في يد القارئ تدخله معي في عوالم البلاغ المبين، هذه الخطوة في نشر مبحث المنهج مع خطورة عواقبها ضروريا إن أردنا فتح القرآن أمام الإنسانية”.
1 ـ إذن فهدف صاحب المنهج هو هدف “دعوي”.
2 ـ يدعو فيه الناس لاتباعه ليدخلوا معه في عوالم البلاغ المبين.
3 ـ وقد بدأ في هذه الدعوة بنشر المنهج: “هذه الخطوة في نشر مبحث المنهج”.
4 ـ مع علمه ـ كما يقول هنا ـ بخطورة العواقب.
ولأن صاحب المنهج سيأتي بالعجائب فقد بدأ في تجهيز القرّاء لتقبل ما سيأتي فقال:
“وقد يحمل هذا البحث نقاطا قد تثير القارئ وأنبهه أنّ الأفكار التي لا توقف الرجل من مقعده ولا تقض مضجعه لا تصلح عندي أن تسمى أفكارا ولا تستحق لا النشر ولا التعليق إلاّ من باب الذكرى”.
ونلاحظ هنا أن صاحب المنهج يضع معيار تعريف “الأفكار” ـ عنده ـ:
فالأفكار عنده هي التي تُوقف الرجل من مقعده وتقضُّ مضجعه عندما يتفكر فيها.
وهذا هو الخطأ الأول في استفتاح الكلام:
1 ـ فلا يصلح أن يُقدِّم صاحب منهج عامّ (لقراءة القرءان) في تمهيد منهجه (لمن يليه) برؤية خاصّة ويقول: “عندي”!!
2 ـ إن المفروض أن يضبط المنهج كل الجزيئات ومن قبلها الأفكار، فإذا كان تعريف الأفكار نفسه خطأ فالمنهج إذن إما أن يكون غير حاكم ـ وهذا إشكال ـ، وإما أن يكون به خطأ هذه إحدى مفرزاته ـ فيكون الإشكال أكبرـ.
لقد اعتَمَد صاحب المنهج اعتمادًا كبيرًا علي السرقة مِن الغير ـ كما سيأتي بغزارة ـ، وذَلِكَ كَقولهِ في البداية:
“يوجه القرآن دارسه إلى تنزيل منهاج قراءة على قلبه تنزيلا ذاتيا . .”.
وهو نفس كلام الأستاذ سمير إبراهيم خليل حَسَن بالنصّ، والذي يقول فيه:
“أمَّا مسألة تنزيل منهاج ٱلقرءان فى قلب كل واحد من ٱلبشر وتثبيته فى فؤاده فهى متروكة للبشر. وهو ٱلذى ينزِّل منهاج ٱلقرءان فى قلبه بنفسه . .”.
ثم تناول صاحب المنهج قوله تعالى من سورة المائدة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)”.
والذي يقول الأستاذ سمير فيه:
“وتطوير ٱلرُّوح فىۤ أنفسنا لا يكون إلا بتنزيل منهاج ٱلقرءان فيها ومنه منهاج ٱلوقاية وٱلتطوير وٱلوصل مع ٱلصانع ٱللّه. وهذا ما بينه لنا ٱلبلاغ ٱلعربى: “يَٰۤأيُّها ٱلَّذين ءَامنوا لا تَسئَلُوا عَن أشيآء إِن تُبدَ لَكُم تَسُؤكُم وإن تَسئَلُوا عنها حِينَ يُنَزَّلُ ٱلقرءانُ تُبدَ لَكُم” 101 ٱلمآئدة. وهذا عن تنزيل ٱلقرءان فىۤ أنفسنا. وبتنزيله يتغير ما بأنفسنا. وما فىۤ أنفسنا هو منهاج أدنى لا يملك ٱلقدرة علىۤ إدراك ما يستطيعه منهاج ٱلقرءان ٱلعربى ٱلمبين”.
إلا أن الأستاذ سمير قد أخطأ في فهمه للأية التي لا علاقة لها بالأسئلة المعرفية، وتبعه على ذلك صاحب المنهج الذي يحطب بليل، فزاد على قول الأستاذ سمير بزيادات كانت في منتهى الخطأ وأسس عليها أوهامًا عدة. يقول إبراهيم بن نبي (صاحب المنهج):
“الآية تطالب بطرح السؤال حين تنزيل القرآن، وليس بعد تنزيله، وإذ تؤكد الآية مغفرة الله وحلمه فهي بهذا تدفع إلى السؤال بعد أن حذرت منه في بدايتها. ويظهر إذن أنّ الآية تحمل اختلافا و تناقضا بيّنا في أجزاءها، فما المشكلة؟
أساس المشكلة تبدأ من فهم دليل لفظ “حين يُنزّل” الذي جعله الأسلاف مرادفا ل “بعد أن يُنزّل” ولم ينتبهوا أن نزول آية النهي عن السؤال يعني أن السؤال قد طُرح. فالآيات لا تتحدث عن أسئلة شخصية طرحها معينون بل تتحدث عن أسئلة تخص القرآن ذاته بدليل تصحيحها الفوري :
“ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، و أكثرهم لا يعقلون” المائدة 103. فالآيات تتحدث عن جواب يسوء من يسأل عنه إذ هو لم ينزِّل القرآن بعد على ذاته وهو قد يتهم القرآن بعد هذا بالنقص أو العجز أو الدجل، فتنزيل القرآن على الذات “حين ينزل” بمنهج قراءته الصحيح هو الدرع الواقي من السيئة و السوءة فلفظ “التنزيل” ليس محصورا في تنزيل النص القرآني على قلب النبي الكريم محمد و إنّما التنزيل loading هو لكل إنسان يريد أن يتفاعل مع الكتاب فعليه تنزيل القرآن في ذاته.
و من الناس من يملك منهجا خاطئا يوصله في قراءته للقرآن إلى أخطاء تعود إلى خطأ المنهج نفسه و هذا لا ضير فيه إذ يمكن تصحيحه بإكتشاف الخطأ بما أودع الله في الكون من عفو و حلم يسمح بتصحيح أخطاءنا وهذا ما تعنيه الآية 101. أمّا الأخطر فهو غياب المنهج وحينها يصبح الهدى الذي يحمله القرآن سببا في الكفر، أي سببا في الإمتناع عن سماعه بتغطية كل سبل التفاعل معه التي تصوره الآية 102 فالمنهج الخاطئ يكشف سوءة صاحب من يتبناه أمّا غياب المنهج فهو دافع قوي إلى الكفر و صد أبواب الحوار و التفاعل الإيجابي مع الغير”.
وهنا نجد أخطأ جمّة في فهم الأيات، سنضطر معها إلى تجزئة الردّ ثم جمعه في النهاية لنرى المعنى الحقيقي لهذه الأيات.
● يقول سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا”.
الخطأ الأول: يظنّ الأستاذ صاحب المنهج أن المقصودين في الأية هم جميع المؤمنين، وهو خطأ ظاهر. فالمخاطبون هنا هم قوم بعينهم من مجتمع المؤمنين المعاصرين لتنزيل القرءان (وهو ما سيوضحه بقية الشرح فلننتظر للنهاية).
فقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا” قد يأتي ويُقصد به فئة من المؤمنين، وقد يأتي ويُقصد به كل المؤمنين، ومن الأول قوله تعالى:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ”.
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا”.
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ”.
والمقصود بالذين ءامنوا في هذه الأيات هم المعاصرون للنبيّ النازل فيهم القرءان. وهم الذين نُهوا عن سؤال هذه الأشياء التي سألها قوم من قبلهم ثم كفروا بها.
● ثم يقول سبحانه: “لَا تَسْأَلُوا”.
يقول صاحب المنهج:
“وإذ تؤكد الآية مغفرة الله وحلمه فهي بهذا تدفع إلى السؤال بعد أن حذرت منه في بدايتها”.
وفي كلام صاحب المنهج غفلة عجيبة؛ فالله سبحانه يقول: “لَا تَسْأَلُوا”، وصاحب المنهج يقول: “تؤكد الآية مغفرة الله وحلمه فهي بهذا تدفع إلى السؤال”!!!
وهذا هو الخطأ الثاني: فهذه النتيجة خاطئة تمامًا، حَيثُ تمّ إغفال الكثير من الحقائق للوصول إليها:
1 ـ فالله تعالى لم يُحَذِّر هنا أو في كتابه عمومًا من السؤال في أي مسألة من المسائل المتعلقة بالكتاب المنزل، أو بغيره من مسائل تحتاج إلى الفتوى والمعرفة كما يقول صاحب المنهج: “فهي بهذا تدفع إلى السؤال بعد أن حذرت منه في بدايتها”. وكيف سيكون ذلك مع دعوته سبحانه للمؤمنين للتعلم والمعرفة، وأساسهما هو السؤال؟!
2 ـ بل إن الله تعالى استعرض بكتابه أسئلة المؤمنين وأجابهم أسئلتهم:
“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ”.
“يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ”.
“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ”.
“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ”.
“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ” . . . الخ.
لم يحدث أبدًا أن حذّر الله المؤمنين من السؤال عما يعنّ لهم في سبيل فهم دينهم، أو أي جزئية من جزئيات الكتاب المنزل.
فقول صاحب المنهج هنا أن الأية تدفع إلى السؤال بعد أن حذرت منه في بدايتها غير وجيه وغير صحيح.
● إذن فما هو المقصود بقوله تعالى: “لَا تَسْأَلُوا”؟!!
السؤال في القرءان يأتي بمعنى طلب حاجة، أو بمعنى سؤال لطلب المعرفة، وعلى ذلك فيكون “السائل” في القرءان تأتي بمعنى الذي يسأل حاجة: “وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ”، أو الذي يسأل سؤالاً: “لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ”.
وهنا في موضوعنا نجد أن النهي جاء عن السؤال بمعنى “الطلب” وليس السؤال من أجل المعرفة، وللبيان:
● لو تدبرنا قوله تعالى في الأية التالية (102) سنجد أنها جاءت لتوضح البعد المادي للمسؤول عنه، فيقول سبحانه:
“قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)”.
ونلاحظ:
1 ـ أنه سبحانه قال: “قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ”، ولم يقل: “قد سأل عنها قوم من قبلكم”.
والفرق بين الجملتين واضح: فلو كان: “السؤال عن”، بالمعنى المعرفي الذي ذهب إليه صاحب المنهج من أنه يعني “طرح الأسئلة” لجاء قوله تعالى في الأية (102) بنصّ: “قد سأل عنها قوم من قبلكم” وهو ما لم يحدث. فلما جاء قوله تعالى في الأية التالية: “قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ” تبين أن السؤال هو “طلب” لشيء محسوس معروف للمخاطَب وليس سؤال عن شيء لمعرفته . . . فتأمل.
2 ـ ثم إن قوله تعالى: “قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ”، يعني أنهم سألوا بمعنى “طلبوا” هذا الشيء لأنفسهم، ثم كفروا بهذه الأشياء بعد أن أعطوها: “ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ”. ومن هنا جاءت هذه الأية كموعظة للمؤمنين المخاطبون في الأية لكي ينتهوا عن سؤال هذه الأشياء حتى لا يصيروا إلى ما صار إليه من قبلهم.
3 ـ وبالتالي فإن كل ما جاهد صاحب المنهج لتأكيده من أن السؤال عن الأشياء له وضعين: أحدهما قبل تنزيل القرءان على القلب وهو ما سيسوء الناظر، والآخر حين تنزيله فلن يسوء الناظر ساعتها شيء لأنه سيفهمها على وجهها الصحيح هو خطأ ليس له ما يسانده، وإن كان المعنى صحيح بعيدًا عن الأية.
● ولو نظرنا سنجد أن نهي الله للمؤمنين عن السؤال ـ كما جاء بكتاب ربنا المطلوب تدبره ـ يكون لصالح السائل، إذ ستكون الإجابة فيها مهلكة له؛ فنجده سبحانه يقول:
“وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ”.
لقد سأل قوم موسى موسى أشياء أغضبت الله عليهم فأبدى (أجاب) الله لهم ما سألوه فساءهم ما أبداه الله لهم؛ إذ ضُرِبَت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.
لقد كان السبب في سؤالهم عن الزروع والمحاصيل هو عدم اطمئنانهم لاستمرار رزق الله المن والسلوى، فهم يطمئنون لسنن الله في إخراج الأرض للزرع أكثر من اطمئنانهم لله نفسه؛ فاستحقوا الغضب من الله.
وهناك أمثلة أخرى ولو أنها لا تنطبق على حالة الأية محل النقاش لكونها متعلقة بالأيات التي امتنع ورودها في الرسالة الخاتمة إلا أن الإشارة إليها ستفيد من حيث وجود توجيه رباني بعدم سؤالها، وذلك كقوله تعالى:
“أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ”. فما هو الذى سُئِلَهُ موسى من قبل؟!
والجواب هو : الأيات المعجزات. فقد بدأت سورة البقرة فى بيان حال بني إسرائيل مع موسى، فذكر سبحانه كيف أرى بني إسرائيل آياته ومعجزاته لعلهم يهتدون، وقد كان من ذلك فرقه سبحانه البحر بهم:
“وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ”.
وبرغم ذلك قابل بنو إسرائيل نعمة الله وإنقاذه لهم، وما أراه لهم من آيات بالجحود والنكران، فما أن عبروا البحر حتى طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا كما كان يعكف بعض الكفار على أصنام لهم.
وواضح إلى هنا أن الأيات (المعجزات) لم تغير شيئًا من الطبيعة الكفرية لكفار بني إسرائيل.
وكذلك حدث نفس الشيء مع ءاية رفع الله تعالى لجبل الطور فوق رؤوسهم :
“وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا”.
وهكذا سارت الأمور، وتوالت الأيات، وأنزل الله تعالى عليهم المنّ والسلوى، وظللهم بالغمام، وفجر لهم الاثنتى عشرة عينًا، وهم فى غيِّهم يرفلون، ويقابلون إحسان الله ونعمه بالإساءة والجحود؛ فقتلوا الأنبياء، وعصوا أوامر الله لهم على كل الأصعدة، بل إن الأمر تطور للأسوأ، فقد شك هؤلاء فى ربهم، ولم يكتفو بكل الأيات السابقة، وطلبوا من موسى رؤية الله جهرة:
“وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ” .
إذن فالأيات لم تنفع مع قوم موسى، كما لم تنفع مع من قبلهم من الأمم كناقة صالح وغيرها.
وقد سأل أهل الكتاب الرسولَ محمد أن يأتيهم بالأيات المعجزات (كما سأل سلفهم موسى)، فسألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء:
“يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ”.
ولكن الله تعالى بيّن لهم ولغيرهم أن هذا الطلب مرفوض، وأن زمن المعجزات الحسية المعتمدة على الحواس الخمس المعروفة قد ولى، معللاً لهم ذلك بعدم جدواها مع سلفهم، فقال سبحانه:
“وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ”.
ولذا فقد جاء الخطاب لمن حول النبى من المؤمنين والمنافقين وغيرهم من البسطاء ليقول لهم سبحانه مذكرًا إياهم بما حدث فيمن سبقهم من الأمم، ومحذرًا لهم: “أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ”.
ثم يصف حال هؤلاء الذين لا يعلمون من أهل الكتاب أنهم كغيرهم ممن سبقهم : علقوا إيمانهم على مجيء الأيات:
“وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ”.
فمثل هذه الأشياء هى التي ينهى الله تعالى المؤمنين عن سؤالها، ولذا جاء التحذير هنا من السؤال لكي لا يقع من عزم من المؤمنين على سؤال هذه الأشياء في المحظور. والقرءان يشرح ويبين بعضه بعضًا، والقول فيه دون تدبر بقية آياته يذهب بالقائل كل مذهب.
● “عَنْ أَشْيَاءَ”.
نجد هنا في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ . . .” لفظ: “أَشْيَاءَ”.
ولفظ: “أَشْيَاءَ” جاء بالقرءان ثلاث مرات بخلاف هذه، ويقصد بها الممتلكات المادية غير المحددة: “وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ”، “وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ”، “وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ”.
● “إِنْ تُبْدَ لَكُمْ”.
ولفظ: “تُبْدَ لَكُمْ” يعني: تظهر لكم (سواء مادية أو معنوية):
مادية: “تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا”.
معنوية: “مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ”. “قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ”.
● “تَسُؤْكُمْ”.
وهو واضح كقوله: “إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ”.
● ثم يقول تعالى: “وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ”.
“حِينَ”: تعني وقت وزمن، ولنطالع بعض ذلك:
“اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا”.
“أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ”.
“وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ”.
“وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا”.
فقول صاحب المنهج:
“أساس المشكلة تبدأ من فهم دليل لفظ “حين يُنزّل” الذي جعله الأسلاف مرادفا ل “بعد أن يُنزّل” ولم ينتبهوا أن نزول آية النهي عن السؤال يعني أن السؤال قد طُرح”.
وقوله:
“أساس المشكلة تبدأ من فهم دليل لفظ [حين يُنزّل]” اهـ.
هو قول صواب، ولكنه صواب في حقه هو، فأساس المشكلة يكمن في أنه لم يفهم دليل اللفظ المذكور عندما مدّ لفظ “حين” ليشمل كل من يُنَزِّل القرءان على قلبه بينما هو خاص بوقت تنزيل القرءان على النبي.
أقول: لو فكر فيما يقول لوجد المشكلة عنده هو؛ إذ كيف سيقوم المؤمنون بتنزيل القرءان على قلوبهم فيفهمون معنى الأشياء التي ساءتهم سلفًا فتظل تسؤوهم في جميع الأحوال؟!!
إذن فكلمة “حين” هنا إذا ما توجهت لمعناها الصحيح فسيصح معها بقية معاني الكلمات بالأية ليصير المعنى الكلي سليمًا بلا عوار كالذي ينشئه مذهب صاحب المنهج في الأية.
إن الله تعالى لم يقل (مثلاً): “وإن تسألوا عنها حين ينزل القرءان تبدا لكم ولا تسؤكم” فأضاف صاحب المنهج عدم الإساءة من عندياته ليمشي قوله في الأية. . . فتأمل!!
● ثم يقول تعالى: “وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ”.
“يُنَزَّلُ” هنا كقوله تعالى: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا”.
لم يقل سبحانه: حين تنزلوا القرءان، ولمزيد بيان نقول: نحن هنا بين أمرين:
إما أن يكون المقصود بـ: “حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ” أي: وقت ينزّل القرءان على الرسول ويُقضى إليه وحيه.
أو أن يكون المقصود هو وقت تنزيل القرءان على القلوب عامّة. ولكن ظهور المسؤول عنه يسوء في جميع الأحيان ـ كما سلف بيانه ـ، ولننظر جيدًا إلى سياق الأيات:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ”.
الله تعالى يقول هنا: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن سألتم عنها وقت تنزيل القرءان ستُبد لكم وإن أُبْدِيَت لكم ستسؤكم. فالتحذير واقع للمؤمنين أنهم إذا ما سألوا عن الأشياء المعروفة لهم وقت نزول القرءان فستبدا لهم وسيسؤهم هذا الإبداء بأي حال؛ فكيف يقول صاحب المنهج:
“الآية تطالب بطرح السؤال حين تنزيل القرآن”.
“وإذ تؤكد الآية مغفرة الله وحلمه فهي بهذا تدفع إلى السؤال”.
“فالآيات تتحدث عن جواب يسوء من يسأل عنه إذ هو لم ينزِّل القرآن بعد على ذاته”.
“فتنزيل القرآن على الذات “حين ينزل” بمنهج قراءته الصحيح هو الدرع الواقي من السيئة والسوءة”.
كلام صاحب المنهج كما هو واضح بعيد عن تدبر الأيات.
● ثم انظر إلى قوله تعالى: “عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)”
فنجد أن انتهاء الأية بذكر مغفرة الله وحلمه هو تأكيد على النهي التحذيري الواقع في بداية الأية عن سؤال هذه الأشياء التي يحتاج العزم على سؤالها إلى مغفرة وحلم!!!
فإذا كان العزم على سؤال هذه الأشياء يحتاج إلى مغفرة وحلم فما بالنا بسؤالها؟!!
الخلاصة:
إذن فقد أراد بعض المؤمنين المعاصرين للنبي أن يسألوا عن أشياء مادية “لم يُفصح عنها القرءان” لمعلوميتها لهم. فجاءهم التحذير من الله تعالى أن يسألوا عن هذه الأشياء التي لو أظهرها الله لهم حين يُنزل القرءان لساءهم إظهارها؛ إذ سألها قوم ممن سبقوا فأوتوها فكانت سببًا لغمّهم بعد أن كفروا بها. وبما أن الخطاب هنا يدور عن هذه الأشياء المنهي عن سؤالها فهو ليس للمؤمنين الذين سيقومون بتنزيل القرءان على قلوبهم (install) على مرّ الزمان، وإنما هو للمؤمنين الذين ينزل القرءان فيهم. ولنلخص ما قلناه هنا:
1 ـ المخاطبون في الأية هم قوم بعينهم من مجتمع المؤمنين المعاصرين لتنزيل القرءان.
2 ـ والله تعالى لم يُحَذِّر في كتابه عمومًا من السؤال في أي مسألة من المسائل المتعلقة بالكتاب المنزل، أو بغيره من مسائل تحتاج إلى الفتوى والمعرفة.
3 ـ الله تعالى استعرض بكتابه أسئلة المؤمنين وأجابهم أسئلتهم.
4 ـ السؤال في الأية جاء بمعنى طلب حاجة.
5 ـ السائل في الأية هم مجموعة أرادوا سؤال حاجة مادية.
6 ـ النهي في الأية جاء عن السؤال بمعنى “الطلب” وليس السؤال من أجل المعرفة.
7 ـ قوله تعالى: “قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ”، يعني أنهم سألوا بمعنى “طلبوا” هذا الشيء لأنفسهم، ثم كفروا بهذه الأشياء بعد أن أعطوها.
8 ـ جاءت هذه الأية كموعظة للمؤمنين المخاطبون في الأية لكي يرجعوا عن عزمهم سؤال هذه الأشياء حتى لا يصيروا إلى ما صار إليه من قبلهم.
9 ـ نهي الله للمؤمنين عن سؤال شيء ما ـ كما جاء بكتاب ربنا المطلوب تدبره ـ يكون لصالح السائل، إذ ستكون الإجابة فيها مهلكة له.
10
ـ لفظ: “أَشْيَاءَ” جاء بالقرءان ثلاث مرات بخلاف ما جاء في الأية، ويقصد بها الممتلكات المادية غير المحددة.
11 ـ ظهور المسؤول عنه يسوء في جميع الأحوال.
12 ـ انتهاء الأية بذكر مغفرة الله وحلمه هو تأكيد على النهي عن سؤال هذه الأشياء التي تحتاج إلى مغفرة وحلم بعد أن حذرت منه في بدايتها.
إذن فقد سأل بعض المعاصرين للنبي عن أشياء مادية “لم يُفصح عنها القرءان” لمعلوميتها لهم. ولو أظهرها الله لهم حين يُنزل القرءان لساءهم إظهارها؛ إذ سألها قوم ممن سبقوا فأوتوها فكانت سببًا لغمّهم بعد أن كفروا بها.
ثم يقول صاحب المنهج:
“وسياق الآيات يوضح أنّ بعض الناس يتهم القرآن أنّه يؤسس لشعائر وثنية ويجعل الناس مرتبطين بأشياء فلكلورية لا معنى لها من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام”.
وهو كلام غير صواب؛ فسياق الأيات ليس فيه من قريب أو بعيد أنّ بعض الناس يتهم القرآن أنّه يؤسس لشعائر وثنية أو يجعل الناس مرتبطين بأشياء ـ كما قال ـ فلكلورية لا معنى لها من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام.
ولكن الحقيقة أن القرءان يبين أن هذه الشرائع البائدة ليست من دين الله: “مَا جَعَلَ اللّهُ“.
ثم يقول صاحب المنهج:
“جعلوها مرادفة لمفاهيم الشهر الحرام والكعبة والهدي والقلائد التي جاءت في نفس سياق الآيات (آية 97 من ) والتي تحمل دلالات فيزيائية بدأنا معرفة بعض أسرارها في نهايات هذا القرن فيما يسمى ب : String theory فالشهر الحرام (الكوارك) بإجتماعه يكون قلائد وفق هدي محدد يصل به إلى تناظر سداسي المعبر عنه في عالمنا بشكل الكعبة المعروف، هذه الحقائق الكونية المبثوثة في القرآن هي التي تجعلنا نعلم أنّ الله يعلم: “جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد؛ ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأنّ الله بكل شيء عليم”.
وهو كلام سرقه من الأستاذ سمير إبراهيم في كتابه: منهاج العلوم (الجزء الثاني ص: 167):
“(جعل ٱللَّهُ ٱلكعبةَ ٱلبيتَ ٱلحرامَ قيامًا لِّلنَّاسِ وٱلشَّهرَ ٱلحرامَ وٱلهّدىَ وٱلقلـٰئِدَ ذٰلك لِتَعلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يعلمُ ما فِى ٱلسَّمـٰوٰتِ وما فِى ٱلأرض وأَنَّ ٱللَّهَ بكُلِّ شىءٍ عليم) 97 ٱلمائدة. وفيه أنَّ ٱللَّه عليم بما فى ٱلسَّمٰوٰت وٱلأرض وبكلِّ شىءٍ. ويريدناۤ أن نعلم ذٰلك من خلال جعله “ٱلكعبةَ ٱلبيتَ ٱلحرامَ قيامًا لِّلنَّاسِ وٱلشَّهرَ ٱلحرامَ وٱلهَدىَ وٱلقلـٰئدَ”. فما هى هٰذه ٱلأشيآء ٱلتى تجعلنا نعلم أنَّ ٱللَّه يعلم بكلِّ شىءٍ؟ “.
ثم يقول الأستاذ سمير:
“فى ٱلبلاغ أربعة أشيآء جعلها ٱلَّلهُ أساسًا لَّنا لنعلم أنَّه يعلم بكلِّ شىءٍ. وهٰذه ٱلأشيآء هى “ٱلكعبة وٱلشهر ٱلحرام وٱلهَدىَ وٱلقلـٰئد”. وفيما يلى عرض لفهمى ٱلمتشابه يظهر أنَّ ٱللّه يعلم.
كلمة “ٱلكعبة” من ٱلأصل “كَعَبَ”. وهٰذا ٱلفعل يجعل للشىء ستة وجوه رباعية متماثلة ٱلأركان (زاوية فى ٱللغة ٱلفصحى). وٱلكعبة هيئتها ذات وجوه ستة رباعية متماثلة ٱلأركان وهى هيئة مبصرة بيّنة . .”.
فكلام صاحب المنهج هو قول مسروق، نسبه لفكره هو، وسكت عن صاحبه، ولم يفقه حتى ما يريد صاحب الكلام أن يقوله. وهو ما سنبينه فيما هو ءاتٍ.
فقوله هنا بأن الشهر الحرام هو الكوارك وأن باجتماعه يكون قلائد وفق هدي محدد يصل به إلى تناظر سداسي المعبر عنه في عالمنا بشكل الكعبة المعروف هو وهم منه وتحميل للنصّ بما ليس فيه. وكان الأولى له أن يقول بأن الشهر الحرام يمكن أن يرمز إلى كذا بدلاً من أن يقول إنه كذا!!!
ولنطالع ما هية الشهر الحرام من نصّ الكتاب المنزل؛ يقول سبحانه:
“إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ”.
فنجد أن الله تعالى يهدي الناس إلى أن عدد الشهور عنده (فِي كِتَابِ اللّهِ) هو إثنا عشر شهرًا، وأنه في شرعه سبحانه قد جعل من هذه الإثنا عشر شهرًا أربعة حُرم، ثم حددها للناس حتى أصبحت أمرًا متعارفًا عليه، وبالتالي فقد صارت معلومات للناس. يقول سبحانه:
“الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ”.
وبالتالي أصبح من المنطقي والعقلي أن تترتب الأحكام على هذه المعرفة فيقول سبحانه (مثلاً):
“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ”.
إذن فالشهر الحرام كما يبدو هنا معروف للناس، ولذا فهم يسألون عن بعض الأحكام المتعلقة به، ولم يسألوا عن الشهر ذاته، فجاءتهم الإجابة من الله من منطلق أن الشهر الحرام متعارف عليه ولا مشاكل في تحديده. فالله تعالى يقول للنبي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام فقل لهم:
“الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ”.
فجاء صاحب المنهج ليقول كلامًا عجيبًا مفاده أن الشهر الحرام هو الكوارك؛ . . انظروا:
“فالشهر الحرام (الكوارك)”!!!!
وهذا القول يحمل في طياته قصورًا عجيبًا يصبّ في اقتطاع أجزاء الأيات دون النظر في بقية القرءان، وهو ما سنجده في الكثير من أجزاء منهجه.
إذن فالشهر الحرام هو شهر من شهور السنة حرّمه الله تعالى وحرّم القتال فيه إلا أن يكون ردًّا لاعتداء. ولظهور المعنى احتضنه السلف، فالتعويل بعد ذلك على أنه قول السلف المتخلف والتراثي و و و . . فكل ذلك لن يُغير من الحقيقة شيئًا سواء أخذ السلف بظهوره أم كان لهم رأي ءاخر.
والمنهج الذي يعتبر أنه طالما توافقت عدة الشهور مع عدة الكواركات فإن هذا يجعلهم شيئًا واحدًا هو منهج مختل، ستكون نتائجه أيضًا مختلة، وسيقع التصادم بينه وبين بقية الأيات لا محالة، وسيصير إلى التوفيق والتلفيق لجبر الاختلال الحادث والظاهر.
سلمنا (جدلاً) بقول صاحب المنهج أن الشهر الحرام هو الكوارك!!!
فهل سيكون معنى قوله تعالى: “الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ” هو: الكوارك بالكوارك والحرمات قصاص؟!!!
ومعنى قوله تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ” هو: يسألونك عن الكوارك قتال في الكوارك قل قتال في الكوارك كبير؟!!!
عجيب هذا الفكر الحشوي الذي يحشو في الدين كل شارد ووارد.
علمًا بأنه لو سلمنا بذلك فسيكون النبي يعلم عن الكوارك هو وأصحابه وليس كما قال صاحب المنهج بجهل النبي ومن معه بالفيزياء وبالمنزل عليهم!!
ويكون معنى قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ” هو: يا أيها الذين أمنوا لا تُحلوا شعائر الله ولا الكوارك؟!!!
ومعنى قوله تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ”، هو:
إن عدة الكواركات عند الله اثنا عشر كواركًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة كواركات حرم؟!!!
وسيكون معنى قوله تعالى: “فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ”، هو:
فإذا انسلخ الكواركات الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم؟!!!
بدايات منهج عجيبة!!!
وعلى أي حال فإن الشهر والأشهر والكواركات سيأتي بحثهم بتوسع عند مناقشة الكعبة بعد قليل.
ثم يقول صاحب المنهج: “ونبه القرآن أنّ شكل الكعبة وبعض الطقوس التي تحيطها رمز لعلم كوني سيعرفه الناس لاحقا“.
وهو كلام غير صحيح،
1 ـ فأين تنبيه القرءان إلى شكل الكعبة؟!!
هذه هي الأيات التي جاء بها لفظ “الكعبة”:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ”.
“جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”.
وواضح دون عناء أنه لا يوجد تنبيه على شكل الكعبة في الأيات؟!!
2 ـ وأين تنبيه القرءان أنّ شكل الكعبة وبعض الطقوس التي تحيطها رمز لعلم كوني سيعرفه الناس لاحقا؟!
إنها الأوهام فقط، ولا مانع منها ويمكن تبنيها ولكن على أن يكون ذلك منطوق الوهم لا القرءان، وبالتالي تصير كرؤية لصاحبها لا تلزم نصوص الكتاب في شيء، فإذا ما ظهر ما ينقض هذه الرؤية لم يعد هذا النقض على مبنى النصّ في شيء.
والسؤال إلى صاحب المنهج هو: ما المقصود بالكعبة؟!!
من أين أتيت بأن الكعبة هى الكعبة المعروفة للناس؟!!
لماذا انتقيت تعريف الكعبة فوافقت على أنه هو المبنى ذو الأربعة أوجه الأسود الموجود بمكة والذي يطوف حوله الحجيج، ولم تأخذ بتعريف الأشهر الحرم المتعارف عليه؟!!
ثم إن مبنى الكعبة أضلاعه ليست متساوية، فالضلع القائم أطول من الضلع النائم فهل وجدت ذلك في التناظر السداسي للمرور من كوارك إلى كوارك؟!!
ثم يقول صاحب المنهج:
“ونبه القرآن أنّ شكل الكعبة و بعض الطقوس التي تحيطها رمز لعلم كوني سيعرفه الناس لاحقا لتبقى الإنسانية مرتبطة بالسماء مهما كان سقفها المعرفي ولتعلم أنّ العلم والمعرفة الكونية هي مراد القرآن وليست الطقوس والفلكلور”.
1 ـ ولو صدق ما يقول لكان ارتباط الناس بالسماء معدوم عند تنزيل الرسالة حيث لم تكتشف أي شيء عن العلم الكوني، ولا هى التي فكت الرموز المشار إليها (وهمًا).
2 ـ ولو صدق ما يقول لكان انكباب الناس على الطقوس والفلكلور هو على غير مراد الله، وإنما أراد الله العلم والمعرفة الكونية المستحيل إدراكها لقرابة الألف وخمسمائة سنة!!
3 ـ ولو صدق ما يقول لكان الله يعلم سبحانه (وحاشاه) أن الناس ستضل بكتابه المنزل طوال هذه الألف وخمسمائة سنة وأنها ستقوم بتحويل الرموز إلى طقوس وفلكلور!!
فكيف يسلم ذلك مع قول الله تعالى عن كتابه أنه هدى؟!!!
ثم إن كلمة “طقوس” هى كلمة غير قرءانية، فكان الأولى أن يلتزم صاحب المنهج بألفاظ القرءان عند استعراض آياته. أما كلمة “فلكلور” فهى كلمة لا تليق في وصف العبادات الظاهرة من النصّ، ولكن المذكور يأبى إلا أن يُحَقّر المخالف فلماذا هذا الشيط في التعبير؟!!
ثم يقول صاحب المنهج:
“فالسؤال الذي طرح في الآية جوهري وهو : كيف نعلم أنّ الله يعلم، وجوابه: إقرأوا الكون وعودوا للقرآن لتروا التناظر وهذه الجدلية هي الوحيدة التي تجعلنا نطمئن في سيرنا الكوني المحاط بالرحمة من كل جانب”.
وهو استطراد في الوهم. فليس في الأية سؤال ولا جواب!!!
فالأية يقول سبحانه فيها: “جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”:
● “جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ“: أي أن الكعبة بيت الله تعالى، وهو أول بيت وُضِعَ للناس، وأمر خليله إبراهيم بتطهيره من الشرك والكفر:
“إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ”.
“وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ”.
● “الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ“: قرن الله تعالى الكعبة بالبيت الحرام دون فاصل ليقول إن الكعبة هى البيت الحرام، والبيت هو المكان الذي يلجاء الإنسان إليه ليسكن فيه، والحرام: هو ما يوفر للساكن الطمأنينة: “وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً”.
● “قِيَامًا لِّلنَّاسِ“: فالبيت يقوم بتأمين إسكان الناس الذين يؤمونه.
● “وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ“: يؤمنهم في ذهابهم وإيابهم.
● “وَالْهَدْيَ“: يؤمنهم من الجوع والانشغال بطلب الرزق.
● “وَالْقَلاَئِد“: هى كل ما يتقلده الإنسان في رحلته من متاع وركاب تؤمن لهم مستلزمات رحلتهم.
أي أن الله تعالى جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس. وكون الكعبة بيت حرام هو بسط للأمان حول البيت، وهو كقوله سبحانه: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ”.
إذن فقد جعل الله تعالى الكعبة البيت الحرام مكانًا ءامنًا بخلاف بقاع الأرض التي يُتخطف فيها الناس. وكذلك جعل الله تعالى الشهر الحرام عدة زمنية آمنة، ومدها لتصير أربعة، لكي يطمئن الناس في ذهابهم وإيابهم، فينتقلوا إلى البيت الحرام معهم الهدى والقلائد، فلا ينشغلوا أيضًا بتحصيل الطعام ويتفرغوا لمناقشاتهم العلمية بعد أن اجتمعوا من أطياف الأرض، فيفيدوا ويستفيدوا وهو ما نصّ سبحانه عليه في قوله تعالى: ” وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ● لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ● ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ”.
وشهادة المنافع هُنا لَها تَعَلّقٍ بقولِهِ تعالي: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ”.
فجعل سبحانه شهادة المنافع، وذكر اسم الله، مقدم على الطواف بالبيت. وشهادة المنافع هذه وذكر اسم الله ستفضي بهم إلى العلم بأن الله تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله بكل شيء عليم. إذ سَيُثْبِتُ لَهُم البَحث (ذِكر الاسم) أنَّ التحريم كان مِن العليم بخَلْقِه. فإذا ما توفّرت كل هذه العناصر مجتمعة فقد تواجدت بيئة تهيء للناس تبادل المنافع عامّة ومنها تبادل العلوم.
● “ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”.
وهو كقوله تعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا”.
“أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ● فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ”.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
إذًا فقد فجعل سبحانه شهادة المنافع مقدمة على الطواف بالبيت. وشهادة المنافع هذه وذكر اسم الله ستفضي بهم إلى العلم بأن الله تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله بكل شيء عليم. كل ما هنالك أن الانحراف عن هدي الكتاب قد حدث قديمًا، فضاعت فرص العلم من الخلف الذي أذهب وقته وجهده في تجميع وتنسيق وتبويب واستشكال وشرح الروايات، وتركوا الأخذ بأسباب العلم، فتوقف مددهم، وجف نبعهم، وتعطل بئرهم مع أن عددهم وفير وجمعهم غفير وقصرهم مشيد.
فالقول بأن شكل الكعبة رمز لعلم كوني هو قول فيه تكلف.
والقول بأن العبادات المنصوص عليها هى فلكلور وطقوس هو قول فاسد.
والقول بأن العلم والمعرفة الكونية هي مراد القرءان هو تقليل وتحجيم وانتقاص من شمولية القرءان.
والقول بأن قراءة الكون والعودة للقرءان لرؤية التناظر لنطمئن في سيرنا الكوني هو وهم أبسط ما يُقال فيه هو: فما أهمية القرءان إذن بعد أن علمنا وتأكدنا من أنه من عند الله مع القول بأنه ليس كتاب للطقوس والفلكلور والعبادات؟!
وهل تقلصت وظيفة الكتاب ليكون كل المطلوب منه أن نعرف أنه كتاب تمّ ترميزه لنتأكد من مواكبته لما يتمّ اكتشافه من الكون وانتهينا؟!!!
ألم يقل الله سبحانه أن الكتاب هدى للعالمين، ثم أمر بأوامر ونهى عن نواهي، وشرع الشرائع، وتكلم عن المستقبل لنؤمن به، وتكلم عن الماضي لنعتبر به، وتكلم عن الحاضر لنستقيم به؟!
أليس كل ذلك هو من مراد القرءان؟!
فكيف يقول صاحب المنهج: “لتعلم أنّ العلم والمعرفة الكونية هي مراد القرآن وليست الطقوس والفلكلور”.
ولو صدقناه في طرحه هذا لصار هدف منهجه هو إثبات أن القرءان له هدف محدد ووحيد وهو العلم والمعرفة الكونية. وما دام قد انتهى لذلك فستكون كتب العلم المجرد المتخصص أفضل ألف مرة من القرءان الذي لم يفصل في الفيزياء بفروعها، أو الكيمياء بفروعها، أو الأحياء بتنوعها، . . الخ.
ثم يقول صاحب المنهج:
“ويسمي القرآن غياب منهج القراءة والتخبط في التعامل معه خوضا”.
وقوله هُنا بأن القرءان يسمي غياب منهج القراءة والتخبط في التعامل معه خوضا فهو غير صحيح. فالقرءان قال بالخوض للذين يلعبون ويقصدون الكفر بأيات الله ويتخذون الدين لهوًا ولعبًا واستهزاءً:
” وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ”.
“وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ”.
ومثل هؤلاء لا يُقال عنهم أن منهج قراءة القرءان قد غاب عنهم، فهم لا يريدون أن يقرأوا شيئًا بالأساس فضلاً عن انتهاج منهج بعينه لقراءة القرءان.
ثم يقول صاحب المنهج:
“فأنباء القرآن هي الحق الكوني الذي سيستقر نبأها شيئا فشيئا مواكبة طور الإنسان العلمي و المعرفي والذين يخوضون دون تحضير ودون إطالة النظر في الكون و دون وقايات عديدة لفهم حقائق القرآن لا مجال للقعود معهم فهم في مرحلة طحلبية متأخرة جدا يجب تنبيههم إن سمعوا بإرتداء الوقايات حتى لا ينزلقوا في الإتهام الباطل أمّا من أسس لنفسه منهجا و أخطأ فهذا “ما من حسابهم من شيء”، عليه فقط أن يحنف عن قراءته الخاطئة و منهجه الخاطئ “.
وقوله هُنا بأن أنباء القرءان هى الحق الكوني غير صحيح. فأنباء القرءان كما جاءت بالقرءان كالتالي:
“ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ”.
“تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ”.
“ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ”.
“وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ”.
“ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ”.
“كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا”.
ونلاحظ أن أنباء القرءان جاءت عبارة عن:
أ ـ أنباء الغيب الماضي.
ب ـ أنباء القرى.
جـ ـ أنباء الرسل.
فأين أن في القرءان نصّ على أن أنباء القرءان هى الحق الكوني؟!
بالطبع هذا كلام لا يخضع للنصّ المنزل.
بقى أن يُقال إن المقصود هو ظهور معاني كانت كامنة أظهرها الاكتشاف العلمي.
وحتى هكذا فعبارة: “فأنباء القرآن هي الحق الكوني” هى خطأ بيّن. فعندنا النصّ يقول:
” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ”، فلماذا نقول بأن أنباء القرءان هى الحق الكوني بينما هى لا علاقة لها بالحق الكوني؟!
والحق أن يُقال إن التقدم العلمي سيُمَكِّنُ الناس من خلال دراسة الأفاق والحياة البيولوجية للإنسان من تبين أن القرءان حق.
فمثلاً عندما يقول الله سبحانه: ” وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”.
فسيجد الإنسان البسيط من حوله بعينه المجردة هذه الحقيقة ماثلة أمامه، فيطمئن قلبه ويسكن خاطره بهذه الحقيقة لأن كلمات الله تعالى تأتي بالحق.
فإذا مرت الأعوام وطال الزمان، وجاء “بنو ميكروسكوب” واطلّعوا على ما وراء العين المجردة فسيجدوا هذا التزواج واقع كما هو في المرئي بالعين المجردة. وهكذا كلما زادت التقنية دقة وتعمق النظر ظلت الحقيقة على ثباتها، وظل التزاوج واقعًا. حتى إذا ما وصلوا إلى المنتهى وجدوا أن ٱلكواركات لا تظهر إلاّ ملتصقة ببعضها البعض على شكل أزواج تسمى ٱلميزونات mesons”.
ويقول الأستاذ سمير (الذي سرق منه صاحب المنهج) نقلاً عن مقال “ٱكتشاف كوارك ٱلقمة” الوارد بمجلة العلوم الأمريكية ـ المجلد 14 ـ العدد 5 ـ 1998:
“وحتى كوارك ٱلقمة يتفكك حسب تنبؤات ٱلمنوال ٱلمعياري إلى جسيم w وكوارك ٱلقاعدة، ويمكن للجسيم w أن يتفكك إلى كوارك وكوارك مضاد من ٱلجيل نفسه: كوارك فوقي وكوارك تحتي مثلاً”.
إذن فالتزاوج واقع بكل حال، ولكن السؤال الذي سيطرح نفسه بقوة عند من يريد أن يصل إلى الحق هو: كيف توصل بشر منذ ما يقرب من الألف وخمسمائة عام إلى هذه الحقيقة “الطازة” التي لم يمرّ على معرفتها والتثبت منها سوى زمن يسير؟!
إذن فالذي قال بكل ثقة بوقوع الزوجية في الأشياء كلها على علم ويعلم خلقه “أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”. ويكون ما بالكتاب هو حق، يظهر ويبدوا للناس على اختلاف عصورهم وتقدم تقنيتهم.
2 ـ أما القول بأن “أنباء القرآن هي الحق الكوني الذي سيستقر نبأها شيئا فشيئا” فهو كسابقه.
3 ـ أما القول بأن: “الذي سيستقر نبأها شيئا فشيئا مواكبة طور الإنسان العلمي والمعرفي” فهو كسابقيه.
4 ـ أما القول بأن الذين يخوضون دون تحضير ودون إطالة النظر في الكون ودون وقايات عديدة لفهم حقائق القرءان لا مجال للقعود معهم كما لو كان ذلك هو مفهوم قوله تعالى: “وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ” فهو وهم، وتحميل للأيات ماليس فيها.
فلا شيء في القعود مع الذين يخوضون دون تحضير ودون إطالة النظر في الكون فهى ليست محل النقاش أصلاً، وإنما المنهي عنه هو الجلوس مع من يستهزؤون بآيات الكتاب.
ولعل قائل يقول: إن الكون كتاب، وءايات الكتاب هى ءايات الكون، فيكون الذين خاضوا في القديم كانوا يخوضون في الكوارك والبوزون؟!!!
ثم يقول صاحب المنهج:
“المنهج المؤَسس ليس خوضا ولا لغوا بل قواعد ثابثة يلتزم المرء بنتائجها مهما ظهرت هذه النتائج غريبة عن الفكر السائد ومعادية له، ويعود المرء لتحديث منهجه إن ظهر تناقضه، عكس اللغو الذي في دليله التشرذم والضياع”.
والحقيقة أنَّهُ بغض النظر عن الفكر السائد فينبغي ألا يصطدم المنهج أو نتائجه بالنصوص أو بالعقل.
ثم يقول صاحب المنهج:
“والغاية من تأسيس المنهج هو فسح المجال ليتكلم القرآن لا أن نتكلم في مكانه”.
كلام جميل إلا أن ما سبق في التقديم للمنهج حدث فيه العكس؛ فتكلم صاحب المنهج بدلاً من القرءان كما رأينا!!
ثم يقول صاحب المنهج:
“مثل الذين حمِّلوا التوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا؛ بئس مثل القومـ الذين كذّبوا بآيات الله؛ و الله لا يهدي القوم الظالمين” الجمعة : 5
وأظن أنّ الناس لم يتمعنوا جيدا في هذه الآية، فلنقف عندها قليلا. يهود قوم النبي موسى يفتخرون بالتوراة وهم يتلونها ولكنّهم لم يحملوها لوحدها بل حملوا معها أسفارا أخرى من ميشنا وتلمود وهاجانا زعموا أنّ التوراة لا حق فيها دون هذه الأسفار، فمثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، فهل تنفع الحمار أسفارا ولو هدت ظهره من ثقلها! بدل أن يحملوا التوراة و يتفاعلوا مع الكون ليطمئنوا، حملوا أسفار البشر وأثقلوا بها أنفسهم، فهل ينتظر هؤلاء إلا البأس و البؤس”.
وهنا نجد أن صاحب المنهج يتكلم هو بدلاً من القرءان!!
فالقرءان يقول إن الذين حُمِّلوا التوراة ولكنهم لم يحملوها صارت التوراة معهم كما الأسفار على ظهر الحمار. فأين في الأية أن اليهود لم يحملوا التوراة لوحدها بل حملوا معها أسفارا أخرى من ميشنا وتلمود وهاجانا؟!!!
وأين أن اليهود زعموا أنّ التوراة لا حق فيها دون هذه الأسفار؟!!!
أليس صاحب المنهج يتكلم هنا بدلاً من القرءان؟!!!
ثم يقول صاحب المنهج:
“أليس من واجب الناس أن ينتبهوا أنّ الله شرفهم بالتوراة والإنجيل والقرآن وطالبهم بالبحث الكوني فقط”.
وهو وهم عجيب، فأين أن الله تعالى قد طالب الناس بالبحث الكوني فقط؟!!!!
إن الله تعالى نبه الناس إلى دراسة ما حولهم من مخلوقاته وآياته ليطمئنوا ويتعرفوا على خالقهم وبعض قدرته سبحانه، ولكن هذا أمر من أمور كثيرة، ولنطالع بعض ذلك:
“أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ”.
“أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا”.
“أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ”.
“أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ”.
“أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ”.
“أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”.
فالله تعالى دعا الناس إلى النظر في السماء وبناها بنفس الوقت الذي دعاهم للسير في الأرض لينظروا إلى عاقبة من قبلهم، وهكذا.
ثم يقول سبحانه عن كتابه: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ”.
“أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا”.
“مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ”.
“فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ”.
فدراسة الكتاب وتدبر ءاياته هى دعوة مفتوحة من الله تعالى لعباده، ليعلموا ما فيه من أحكام وشريعة، ويعرفوا الحدود التي حدها سبحانه لهم لينشأ مجتمع عادل تُفتح عليه بركات السماء والأرض، ويحصل لهم الرضا الإلهي:
“وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ”.
وننتهي من هذه النقطة بأن الله تعالى طلب من الناس طلبات شتى وليس كما قيل أنه طالبهم بالبحث الكوني فقط!!!
ثم يقول صاحب المنهج: “أنّ أي بحث ينطلق من فرضيات يزعم أنّها مسلمات ثم يعود إليها في النهاية ليمحصها من جديد، ويسمي القرآن هذه العملية [القلم]: [إقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علّم بالقلم(4) علّم الإنسان ما لم يعلم(5)] العلق“.
وهذا الكلام سرقه صاحب المنهج (المُرَكَّب) مِن عِندَ الدكتور شحرور، الَّذي يقول:
“ [قلم] في اللسان العربي أصل صحيح يدل على تسوية شيء عند بريه وإصلاحه، من ذلك قلمت الظفر ومن هذا الباب سمي القلم قلماً“!!
وَهُوَ خطأ مِن الدكتور شحرور (كما سيأتي لاحقًا في بيان القلم)، ولكن السارق غير بصير، فيسرق ما يُعْجِبَهُ ويظنّه شيئًا، ثُمَّ يتعاجب بهِ مِن مُنْطَلقِ أنَّهُ مِن بناتِ أفكارِهِ. والحقيقة أن القرءان لم يقترب مما يقول صاحب المنهج هنا، ولم يسم الفرضيات والعودة لتمحيصها بالقلم، ولا يستطيع أن يُبرهِنَ علي قولِهِ هَذَا بشيء. فلا أدري كيف يستقيم قوله هنا مع قوله السابق: “والغاية من تأسيس المنهج هو فسح المجال ليتكلم القرآن لا أن نتكلم في مكانه”!!!
ثم يقول صاحب المنهج:
“القراءة وليس التلاوة تبدأ بمتابعة الخلق وزيادة معرفتنا به “ربك الذي خلق” وصولا إلى خلق الإنسان وسر نفخ الروح فيه”.
إن نفخ الروح في الإنسان ليس بسرّ من ناحية الهدف، وأما من ناحية الكيف فهو مستحيل، ففيما هذا اللغط؟!
ثم يقول صاحب المنهج:
“ومن خصائص هذا التعليم الرباني خاصية القلم التي تهدم الماضي لتبني عليه أعمق وأوسع دون أن يكون في هدمها هذا سببا في توقف حياتها وسيرها”.
ولا أدري من أين له بأنه من خصائص التعليم الرباني هدم الماضي لتبني عليه أعمق وأوسع دون أن يكون في هدمها هذا سببا في توقف حياتها؟!!
ومن قال له أن هذا الذي سماه هو خاصية القلم؟!
كلام في الهواء!!!
ثم يقول صاحب المنهج:
“يبدأ رسم قواعد هذا المنهج في إطار محورين كبيرين تتحرك فيهما هذه القواعد و هما : 1 ـ أنّ منهج قراءة القرآن ينبغي أن يصاغ من داخله”.
وهو كلام بديهي منطقي وسليم، ولَكِنَّهُ سيُخالفه في كل حرفٍ وكلمة.
ثم يقول صاحب المنهج:
“علينا أن نحاول فهم دليل الفعل [قرأ] و [قرآن]. فعل [قرأ] يدل على إخراج ما هو مكنون في رحم وبيانه. فبفعل قرأ يخرج ما هو مكنون في كتاب الكون من رموز ويخرج قرء للناس لبيانها، وبفعل [قرأ] تخرج بيانات ثلاث من جوف المطلقة دما يبين أنّها غير حامل : [و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء] البقرة :228
أمّا فعل [تَلو] فهو يدل على تتبع الكلمات المتتالية سواءا كانت مسطورة في صحيفة أو متتابعة في صوت أو منظورة في الكون. فتلاوة الكلام (الكلام في القرآن ليس خطابا شفويا بل هو ما نطلق عليه Information فالكلام أيّا كانت هيئته لا تعني أنّ من يتلو يفهم و يعلم. لكن إذا أجهد نفسه في النظر والإدراك قد يصل إلى استنباط ما يتلوه، وهو بهذا الجهد يكون قد [قرأ] و جعل الكلام المتلو قرءا”.
أقول وهو كلام مسروق ومُرَكَّب مِن عند كِلٍّ مِن الأستاذ سمير الذي يقول في كتابه منهاج العلوم (المطبوع سنة 2002 ـ ص: 189):
” ٱلفعل “قرأ” يدل علىۤ إخراج مخزون مثبَّت فى مكان حصين كٱلفؤاد. وخروجه يكون نطقًا بٱلِّسان أو خطًّا بٱليد. وكل مِّنهما هو قرء. كذٰلك هو خروج ٱلحيض من رحم ٱلأنثى:
“يتربَّصنَ بأنفسهنَّ ثلاثة قروءٍ” 228ٱلبقرة.
وتستعمل ٱللغة ٱلكلمة فى مكان كلمة “تَلَوَ يتلو” ٱلتى تدل على تتبع ٱلكلام فى ٱلسطر بٱلعين سوآء ءكان ذٰلك بصوت أم مِّن دون صوت. وهى لا تستعمل كلمة “تلو” إلا فى تلاوة ٱلقرءان. كما تحرف كلمة “قرء” بكلمة “قراءة”. أمَّا ٱستعمالها لكلمة “ٱستقرآء” فأرى فيه قربًا من دليل ٱلكلمة. بل يمكن ٱلقول أنَّه صواب”.
والدكتور شحرور الَّذي يقول:
“الكتاب المكنون: هو البرنامج الذي بموجبه تعمل قوانين الكون العامة كمعلومات (INFORMATION)”.
أما قول صاحب المنهج:
“وأشير هنا عابرا أنّ رسم النون يدل على الإحتواء، وكأنّ النون مجموعة من النقاط محصورة في وعاء لا تنفلت منه و يقذف بها نقطة نقطة من الداخل مع صعوبة خروجها من عمقه”.
فهو رجم بالغيب، ولا أساس له يُعَوَّل عليه. والذي يتكلم في القرءان لابد له من أن يتكلم فيه بحق، وبعلم، فما بالنا أنه يتكلم في إنشاء منهج قراءة للقرءان، فهل مثل هذا القول قيل بعلم، وخاضع لضوابط، ويُبنى عليه؟!!
ثم يقول صاحب المنهج:
“ويشهد القرآن لنفسه أنّه تنزيل للكتاب، أي أنّ الكون كلّه أُسقط في صحيفة تحويه في قروءه كلها. وعليه فبيان القرآن يأتي في وقت بعيد عن وقت نزوله”.
وهذا القول لا يستقيم بحال، وفساده واضح من وجوه.
فلو طالعنا (مثلاً) قوله تعالى: ” تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ” وقلنا بقول صاحب المنهج بأن المعنى هو أنّ الكون كلّه أُسقط في صحيفة تحويه في قروءه كلها فسنجد في الأية التالية: “أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ”.
وظاهر في الأية أن الله تعالى يقول إن كتابه هذا الذي يقولون إن الرسول افتراه هو الحق وأن الهدف منه هو إنذار القوم النازل فيهم هذا الكتاب لعلهم يهتدون.
ولكن القوم هناك لن يصلح معهم القول بأنّ الكون كلّه أُسقط في صحيفة تحويه في قروءه كلها، فيكون هذا القول فاسد هناك. وحتى لو رجعنا إلى الوراء لمئتي سنة فقط فلن يكون لمثل هذا القول أي قيمة. إذن فهذا القول مبني على الاكتشافات الحديثة المتأخرة، فيكون القول به هو إفراغ للكتاب من محتواه الفكري والمعنوي والهدفي طيلة عمره الماضي لمئات السنين.
ولعله من معايير صحة النظرية أن تثبت في طرحها زمانًا، وعقلاً، وهو ما لا يتوفر لهذا الطرح بحال. ولوقوع الخلل في القول نجد تكملته مستمرة في نفس الفساد فنجد: “وعليه فبيان القرآن يأتي في وقت بعيد عن وقت نزوله”!!!
فبالله عليكم هل يُنْزل الله كتابًا لا معنى له عند من نزل فيهم ثم يأتي بيانه في وقت بعيد عن وقت نزوله؟!
لقد تورك صاحب المنهج على حرفين اثنين في قوله هذا وهى كلمة “ثم”:
“أمّا بيان القرآن فيأتي بعد ذلك بزمن بعيد الذي ترسمه أداة [ثمّ]”.
● حسنًا فلنناقش توركه على: “ثم”:
فلو نظرنا لورود “ثم” فى آيات الكتاب نجد أنها تأتى أحيانًا فى سياق يستغرق آلاف السنين، وأحيانًا أخرى فى سياق يستغرق ساعات أو دقائق، وأحيانًا أخرى لا تفيد التراخى مطلقًا:
● فعندما يقول سبحانه: ” قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ● ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ . . “.
فهو سياق ” ثم ” فيه تستغرق آلاف السنين.
● وعندما يقول تعالى: ” قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ● ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ● ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ”.
فسنجد أن التراخى هنا مرة حُدد بسبع سنين، ومرة حُدد بسنة واحدة.
● وعندما يقول تعالى: ” فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ “.
فقد وصل التراخى إلى ساعات محدودة.
● وعندما يقول تعالى : ” وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ● ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً . . “.
فلم يسبق ” ثم ” هنا ذكر لأحد من المرسلين!
فالتراخى هنا أين ولما ؟
● وعندما قال سبحانه عن قوم مدين وموسى:
“كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ● وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ”.
فقد جاء ذكر إرسال موسى بدون “ثم” فهل يُفيد ذلك أن موسى كان معاصرًا لمدين؟ بالطبع لا!!
فيكون التمسك بـ “ثم” وما شابه ذلك ليس طريقًا للاستدلال، وإنَّما للاستئناس. فما بالنا أن مثل هذا القول الفاسد سيؤسس لنظرية مفادها تأخر البيان لمئات السنين ليتمّ تفصيل الاكتشافات العلمية على البيان؟!!!
● إذن فنعود ونقول: هل تأخر بيان القرءان كما زعم صاحب المنهج؟!
يقول سبحانه: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ”.
فكيف سيكون الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ثم هو بدون بيان وقت نزوله ويظل بدون بيان إلى حين؟!!
هل هذا كلام يستقيم؟!!
وهل هذا كلام يبدأ به من سيؤسس منهجًا لقراءة القرءان بينما هو لا يُحسن هنا قراءة هذه الجزئية الهامّة من أصل التنزيل، وهى أن البيان لازم وحتمي أن يكون مصاحب للتنزيل.
ثم يقول صاحب المنهج: “فالنبي الكريم محمد لم يكن من الّذين يقرأون ولم يكن في قومه من يقرأ وإن كان فيهم من يتلو ويخط فهم “أميون” يتبعون أمة في دليلها منهج السابقين والأسلاف التي تحمله كلمة أم“.
وهو كلام أولاً: مسروق بعضه من قول للأستاذ سمير يقول فيه:
“وأبدأ بٱلكلمات (أمَّ أُمّىّ أُمّة إمام أئمّة). فهى جميعها تستمدّ دليلها من ٱلفعل (أَمَّ)”، وبعضه الأخر (ربما يكون) من بنات أفكار صاحب المنهج، وهو قوله: “فالنبي الكريم محمد لم يكن من الّذين يقرأون ولم يكن في قومه من يقرأ وإن كان فيهم من يتلو ويخط” اهـ.
وهو خطأ مسروق كما سيأتي!
وثانيًا: هُوَ قول عوام لم يرتقوا للنظر في الكتاب بعد، وبالتالي لَم يميّزوا بَعد بين التلاوةِ والقراءة، فالقِراءة هي فهمُ الأشياءِ، والقائلُ أنَّ الرسول لا يقرأ يقول بأنّه فاقد لقُدرة الفَهم!!
وثالثًا: فَهُوَ تناقض مع ما سَبَقَ وأن قَرَّرَهُ مِن قَبل مِن عدم وجود ترادفٍ في القرءان، ومَع ذَلِكَ فهوَ هُنا يسوّي بين القراءة وبَينَ التلاوة، . . . فتأمل!!
وبالتالي فإنَّ قول صاحب المنهج: “فالنبي الكريم محمد لم يكن من الّذين يقرأون و لم يكن في قومه من يقرأ وإن كان فيهم من يتلو و يخط” هو: سمك، لبن، تمرهندي!!
ويعني ضمنيًا أن النبي لم يكن ممن يقرأون، أو يتلون ويخطون، وحتى هَكَذَا فهو غير صحيح فالنبي محمد كان يتلو ويكتب قبل أن يُبعث رسولاً، ولبيان ذلك أقول:
هب أننا نريد أن ننفي عن الرسول كونه يكتب فالمفترض أن نقول: الرسول لا يكتب، أو لم يكن يكتب. فإذا قلنا (مثلاً): الرسول لم يكتب كتاب كذا، فسيتغير الأمر ويصير الرسول بذلك يكتب ولكنه لم يكتب الكتاب المشار إليه، إذ التخصيص يفصح عن وجود عموم سبقه، وكذلك الحال في التلاوة إذا ما قلنا: إن الرسول لم يكن يتلو الكتب الدينية السابقة فسيعني ذلك قدرته على التلاوة عمومًا، ولنطالع قول الله سبحانه:
“وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ”.
لو أراد الله إخبارنا بأن الرسول لا يكتب لما جاء بحرف الهاء في قوله: “وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ”، ولكان الأوفق أن يقول: “وَلَا تَخُطُّ بِيَمِينِكَ”، وبذلك ينتفي فعل الكتابة عن الرسول تمامًا، ولكن حرف الهاء جاء ليبين أن الرسول كان يتلو ويكتب قبل البعثة، إلا أنه ما كان يتلو ولا يخط من كتاب من كتب السابقين!!
وهنا نضع أحد أهم لبنات المنهج الصحيح لقراءة القرءان، وهو: أهمية تدبر القرءان بالحرف وليس بالكلمة، وبالتشكيل والرسم أيضًا، وهنا نجد أن تدبر حرف الهاء ذهب بمعنى مخالف تمامًا لما ذهب إليه الكثيرون، وثبت بفضل الله أن الرسول كان يتلو ويكتب قبل البعثة بزمان، ولكن الله تعالى برأه أن يكون كتب أو تلا كتب الأمم السابقة.
أما قول صاحب المنهج:
“فهم [أميون] يتبعون أمة في دليلها منهج السابقين والأسلاف”.
فهو ـ بخلاف سرقته مِن الأستاذ سمير ـ لا يطابق تعريف القرءان للأمية، فالأمية تشمل كل الاتجاهات (على تعددها) طالما لم تنضوي تحت لواء الكتاب!!
يقول سبحانه: “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ”.
فالأيات تتكلم هنا عن الذين لايعلمون الكتاب إلا أماني لتبين أنهم أميون تركوا العلم المتحقق بالكتاب وأخذوا بالظن فصار دينهم أماني، وهذا يضع أيدينا على بداية تعريف الأمية.
إذ هى هنا تمثل الجهل بالكتاب (لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ)، وهذا هو عين ما كان حادثًا مع النبي قبل البعثة ومع قومه، إذ كانوا لا يعلمون شيئًا عن الكتب السابقة، ولم يكن النبي يعلم شيئًا عن الكتاب، وفي ذلك يقول سبحانه: “. . مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ”.
وبالتالي يمكن أن نقول: إن هناك أميتان ذُكِرتا بالقرءان، أحدهما اختيارية وقعت من الكفرة من الذين أوتوا الكتاب فهجروا ما فيه من علم، فصار جهلهم اختياريًا، لا يرضاه الله تعالى، فوقعوا في الإثم والغضب، وحق عليهم العذاب واللعنة. والأخرى اضطرارية حدثت لعجز الإنسان عن الوصول إلى الحق بنفسه، واحتاج إلى مدد الله تعالى، فلما تأخر المدد وقع الجهل اضطرارًا، فلم يؤاخذ صاحب هذه الأمية، وخرج من دائرتي العذاب والغضب. وهذه الأمية هى التي تنطبق على أمية الرسول وقومه قبل بعثه ولا تلازم بين هذه الأخيرة وبين اتباع أمة سابقة.
فأي من الأميتين لا ينطبق عليها تعريف صاحب المنهج السابق . . . فتأمل!!
ولما كان الجهل هو عصب الأمية، فبالتالي ستصير أى حركة مبنية على الجهل إلى وجهة خطأ. والضلالة تقتضي الحركة، فلا يُقال للساكن إنه ضلّ، وعلى ذلك فالضال هو متحرك جاهل، وهنا سنجد أيضًا نوعين من الضلالة، أحدهما مذمومة، والأخرى محمودة، وضال مذموم، وضال معذور، فالذي أُنزل إليه الكتاب ثم أعرض عنه واتبع الظنون أيًا كانت هو كما عرفنا ” أمي باختياره “. وهذا الأمي باختياره ستحيق به الضلالة لا محالة، ومن ثم سيتحرك في الطريق الخطأ، وسيكون ضلاله هذا من الضلال المذموم الذي يستعيذ منه من يتلوا الفاتحة أن يكون من أهله، وبالتالي سيقع أصحاب هذه الضلالة المختارة في دائرة العذاب والغضب. أما “الأمي اضطرارًا” ألذي لم يأته من ربه ما يهديه بعد فهو غير مكلف بالحركة، فإذا ما تحرك في طريق العبادة فسيضل حتمًا، ولكنه ضلال محمود لكونه يبحث عما يربطه بخالقه، وهو ضلال ذكره سبحانه لخليله إبراهيم عندما بدأ الحركة بدون هدى من الله له فاضطرب بين الكواكب حتى قال: “لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ”، ثم هداه الله واجتباه.
كما ذكر سبحانه هذا الضلال (المحمود) أيضًا لرسولنا ذو الخلق العظيم فقال: “وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى”.
إذن فقد بدأت الصورة المشوهة بأن الله تعالى أرسل رسولاً يجهل التلاوة والكتابة للجهلة بالتلاوة والكتابة تتبدد، وصرنا نقترب من حقيقة أن الرسول كان يتلو ويكتب، وأُرْسِل لقوم يتلون ويكتبون، ولنستكمل المسيرة:
يقول تعالي: “وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”.
تبين الأية أن بعض أهل الكتاب كانوا (ولايزالون) يستحلون أموال غيرهم على اعتبار أنهم غير متدينين بدين، سموهم بالأميين، ومن السذاجة أن يُقال إن بعض أهل الكتاب يستحلون أموال الجهلة بالتلاوة والكتابة. وقد قال أهل التفسير في هذه الأية إن المقصود بالأميين هم العرب، فلا أدري على أي أساس كالوا بمكيالين، فجعلوا الأمي مرة الجاهل بالقراءة والكتابة، ومرة العربي؟!
وإذا ما طالعنا قوله تعالى: “لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ”، وقوله تعالى: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ”، فسنلاحظ أن الله تعالى قد وصف قوم الرسول بالغافلين، كما نلاحظ أن الرسول قد وُصِفَ بنفس الصفة، وهى الغفلة. وهذه الغفلة هى الغفلة الاضطرارية الناتجة من الجهل الاضطراري والأمية الاضطرارية، وبذلك يكون معنى إرسال رسول أمي للأميين هو إرسال رسول لم يسبق أن جاءه كتاب ولا رسول إلى قوم لم يأتهم من قبل لا كتاب ولا رسول.
ويقول نعم المولى في كتابه العزيز: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا”.
ونجد هنا أن الكفار المعاصرين للرسول يصفون القرءان بالإفك، ويقولون بأن الرسول قد افتراه، وأن هناك من أعانه على هذا الافتراء!! فكيف لفق القوم هذه التهمة للرسول؟!
يقول سبحانه في الأية التالية: “وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا”.
واكتتب الكتاب أى طلب كتابته، فهم يتهمون الرسول هنا أنه هو الذي قام بكتابة القرءان بأن طلب من غيره أن يملي عليه من كتابه، فساعده هذا الغير بأن كان يُملي عليه من أساطير الأولين من كتبهم المتوارثة. وقد ذهب القوم إلى تطويع الكلم لمواضعهم هم فقالوا بأن الغير كان يكتبها للرسول، وهو مخالف لكونه هو المتهم بكونه افتراه، وبأنه هو الذي اكتتب، ولكونه هو الذي تُملى عليه!
ويقول نعم النصير في محكم التنزيل: ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”.
ولو تأثرنا بروايات القوم وقلنا بأن الرسول كان يجهل القراءة فكان يكفيه أمر الله تعالى له بأن يقرأ ليجد نفسه يقرأ بلا أى عناء، وذلك تصديق لقوله تعالى: “إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ”.
ولكن الأهم من ذلك هو أن الذي لا يتأثر بترهات القوم سيجد رب عليم يأمر رسول مطيع بأن يقرأ، وبالطبع سيقرأ الرسول لأنه قادر على التلاوة والقراءة.
وللحديثِ بقيّة
رابط الصفحة القديمة بتاريخ 21 نوفمبر، 2011 الساعة 09:32
ملحوظة: عندى نسخة من الموقع كلّه قبل طمسه بعد كشف سرقات وفضآئح الدّعىّ، إبراهيم بن بنىّ، وللحديث بقية.
.